د. آمال مدللي
مستشارة في الشؤون الدولية - واشنطن
TT

أميركا وانعدام الجاذبية!

إن من يريد أن يفهم السياسة الخارجية الأميركية اليوم يمكنه أن يذهب لمشاهدة فيلم غرافيتي أو جاذبية.
الفيلم يروي قصة متخيلة لحادث فضائي يؤدي إلى تدمير المحطة الفضائية الدولية ومقتل كل من في داخلها. لكن رائدي الفضاء الدكتورة راين ستون (تلعب الدور الممثلة ساندرا بولوك) ومات كوالسكي (الممثل جورج كلوني)، اللذين كانا يمشيان في الفضاء الخارجي يحاولان إصلاح القمر الصناعي الشهير، هابل، ينجوان من الاصطدام الهائل الذي أحدثه تطاير شظايا تدمير قمر صناعي روسي في الفضاء الخارجي ولكن يظلان معلقين بالمحطة عبر حبل النجاة ويسبحان في فضاء انعدام الجاذبية.
ولكن التحدي لرائدي الفضاء هو البقاء على قيد الحياة والعودة إلى الأرض، تلك المعجزة الزرقاء على بعد 435 كلم عن المحطة الفضائية..
العودة الصعبة التي أحيانا بدت مستحيلة هي لب الفيلم والعبرة التي تلخص الوضع الأميركي اليوم والسياسة الخارجية الأميركية التي يبدو أنه حتى هوليوود لم تعد تستطيع تجاهلها وتخيل واقع مختلف حتى في أفلامها.
لكي يعود رائدا الفضاء إلى الأرض يستنجدان أولا بالمركبة الفضائية الروسية سيووز، الوسيلة الوحيدة للبرنامج الفضائي الأميركي ولوكالة الطاقة الأميركية - ناسا - للوصول إلى المحطة الفضائية وإرسال رواد فضائها إليها وإعادتهم منذ أوقفت أميركا برنامج المكوك الفضائي الأميركي.
يذهب رائدا الفضاء إلى سيووز وبعد أن يضحي أحدهما بنفسه لكي تستطيع زميلته البقاء على قيد الحياة. ولكن المركبة الروسية كانت غير صالحة للاستعمال بعد وصولهما إليها. وعبثا تحاول رائدة الفضاء الأميركية الاتصال بناسا في هيوستن فكل الاتصالات انقطعت. ولكن عندما تحاول أن تتصل بالأرض تلتقط رجلا صينيا يمازحها ولا تجد وكالة ناسا. البطل الأميركي غائب تماما عن الصورة. سيووز لا تستطيع إكمال الرحلة إلى الأرض وتستنجد رائدة الفضاء بقمر صناعي صيني في الفضاء تستخدم كبسولته لتعود بمفردها ومن دون مساعدة ناسا إلى الأرض. تهبط الكبسولة في البحر في مكان ناء وتخرج الرائدة وحيدة من دون سيارات الإنقاذ وفريق ناسا ومن دون أميركا التي نعرفها في الأفلام وفي الواقع.
جلست صامتة في السينما أفكر بكم يذكرني هذا الفيلم بالسياسة الخارجية الأميركية وتكرار الرئيس أوباما أنه يفضل العمل المتعدد الأطراف في المجموعة الدولية لكي يحل الأزمة السورية. ألم يفز بجائزة نوبل للسلام على «جهوده الخارقة لتقوية الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب» كما قالت لجنة جائزة نوبل؟ ولكن الطبخة السورية احترقت ومعها سوريا التي تشرد أهلها لكثرة الطباخين. التعاون المتعدد الأطراف كان مميتا في سوريا لأنه كان هناك تعدد أطراف ولم يكن هناك تعاون. أحيانا من الأفضل أن يعرف الجميع أن هناك من يجلس في مقعد القيادة.
وفي سوريا كما في الفضاء أنقذت روسيا واشنطن من مأزق؛ فالانطباع في واشنطن وحول العالم أن روسيا أنقذت الإدارة الأميركية والرئيس أوباما باقتراحها التخلص من ترسانة سوريا من السلاح الكيماوي وجنبت أميركا استخدام القوة. وفي الساحة السورية كما في عتمة الفضاء وجد الشعب السوري كما وجدت الدكتورة راين ستون عندما وصلت إلى سيووز أن المركبة الروسية غير صالحة لإعادتها إلى منزلها على الأرض وأن الحل باللجوء إليها حل مؤقت ووهمي.
وفي المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي تشترك الولايات المتحدة وحلفاؤها في نادي الخمسة زائد واحد لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي وبدء سباق تسلح نووي في المنطقة.
ولكن المفاوضات في جنيف بدت لوهلة في نهاية الأسبوع الماضي على باب اختراق تاريخي في علاقة الغرب مع إيران عبر التوصل إلى حل لبرنامجها النووي. ولكن الشيطان كان في التفاصيل التي لم تعجب أصدقاء أميركا وأخافت حلفاءها وخصوصا الاستعجال الذي كان يدفع المفاوضات إلى اختراق سريع يؤدي إلى «إنجاز» يضاف إلى «إنجاز» نزع سلاح سوريا الكيماوي. تدخل وزير خارجية فرنسا الذي لم تعجبه شروط الصفقة واعتبرها «صفقة مغفلين».
أدى الموقف الفرنسي إلى انهيار المفاوضات والخروج من الجولة التي اعتبرت مفصلية من دون اتفاق. الكثيرون تنفسوا الصعداء خصوصا في إسرائيل والخليج. وأصبح شعار الجميع «لا صفقة أفضل من صفقة سيئة». وعنونت صحيفة الـ«وول ستريت جورنال» الأميركية شاكرة فرنسا وسياستها الخارجية «الاستثنائية»، في غمز من قناة الإدارة الأميركية ومبدأ استثنائية أميركا. وقالت الصحيفة بأن فرنسا أنقذت الغرب، وهذا بالطبع يعني أميركا أولا، من صفقة سيئة.
إن هذا عالم جديد خصوصا في السياسة الخارجية الأميركية حيث دائما هناك حاجة لإنقاذ أميركا بينما كانت أميركا دائما هي المنقذ في عيون الكثيرين. حتى هوليوود لم يعد فيها المنقذ هو أميركا بل هو واحد من أعضاء الخمسة زائد واحد في الفضاء كما على الأرض. هبوط رائدة الفضاء وحيدة في مكان منعزل ووقوفها بصعوبة ووهن وحيدة مغطاة برمال الشاطئ الغريب يذكر كثيرا بحلفاء أميركا هذه الأيام. الجميع يشعر أنه وجد نفسه فجأة على شاطئ العلاقة مع واشنطن لا يعرف شيئا عن هذا الشاطئ الغريب وأميركا التي يعرفها لم تأتِ لاستقباله لأن المركبة التي أوصلته لا تتحدث حتى الإنجليزية وهو مثل رائدة الفضاء عليه أن يعتمد على نفسه والحظ.
الفرق الوحيد بين رائدة الفضاء الأميركية التائهة في الفضاء وحلفاء أميركا هو أنهم لم يعودوا واثقين من جاذبية أميركا كما كانت الرائدة ستون واثقة من أن الجاذبية ستعيد مركبتها إلى الأرض.
* مستشارة في الشؤون الدولية - واشنطن