د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

صفقة القرن المستحيلة

أكتب هذا المقال بينما جاريد كوشنر المستشار الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب، وجيسون جرينبلات الممثل الخاص للرئيس في مفاوضات الشرق الأوسط، قد خطا أولى الخطوات نحو «صفقة القرن» التي وعد بها ترمب ناخبيه في الولايات المتحدة، وحلفائه في الشرق الأوسط، ومحورها إقامة السلام الشامل والدائم في منطقة مزقتها الصراعات الكبرى، سواء تلك التي تعود إلى قرن مضى، أو تلك التي تلت ما بات معروفا بالربيع العربي. مثل هذه اللحظة ليست جديدة بالمرة على كل رئاسة جديدة في الولايات المتحدة الذين انقسموا إلى مدرستين في التفكير فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، أو ما يسمى من الناحية الاستراتيجية الكونية «صراع الشرق الأوسط»؛ مدرسة ترى أنه مهما كان التعقيد في العلاقات العربية الإسرائيلية فإن معضلاتها قابلة للحل، وكل ما هنالك أنها تحتاج إلى المهارة الخاصة للرئيس المنتخب، الذي جعلته أهوال الحملة الانتخابية يظن أنه لا توجد أهوال لا قبلها ولا بعدها. والمدرسة الأخرى ترى العكس تماماً أن الشرق الأوسط هو حزمة من الأوحال والرمال المتحركة التي إذا دخلها رئيس، فإنه يضيع ولا يعرف كيف يعود إلى القضايا العالمية الأخرى التي تشغله. المدهش أن رئيساً مثل جورج بوش الابن أخذ بوجهة النظر هذه، فلم يعر صراع العرب والإسرائيليين اهتماماً يذكر خلال فترة رئاسته الأولى؛ فوجد نفسه يهرع في رئاسته الثانية لمحاولة إنقاذ الشرق الأوسط، ولكن بعد فوات الأوان. الحكمة الدائمة أمام كل رئيس هي أنه إذا لم يذهب إلى الشرق الأوسط محاولاً التعامل أو حل الصراع العربي الإسرائيلي، فإن الشرق الأوسط بهذا الصراع وغيره من الصراعات في المنطقة سوف يأتي إليه.
ترمب ليس استثناء من كل ذلك، ولكنه يتعامل مع الموضوع بطريقته المتفردة كما هي العادة؛ فقد بدأ اقترابه من القضية العربية - الإسرائيلية باختيار زوج ابنته إيفانكا ومستشاره الأقرب لكي يكون موفده إلى الفلسطينيين والإسرائيليين، واختار محاميه الخاص ديفيد فريدمان لكي يكون سفيره إلى إسرائيل. اختيار اثنين من «اليهود» لكي يقودا مقدمة البحث عن السلام الفلسطيني الإسرائيلي فيه نوع من تحصين الذات السياسية من تهمة العداء لإسرائيل، وربما كانت محاولة لتليين الجانب الإسرائيلي الذي يظنه ترمب هو الجانب الأصعب في المعادلة، لأنه الجانب الأقوى في ميزان القوى مع الفلسطينيين، ومن ثم فإنه الطرف الذي لا يجد سببا للتنازل، طالما أنه يستطيع الحصول على الغنيمة، كلها أو بعض إضافي منها، إذا ظل الأمر الواقع كما هو. وعلى أي الأحوال فإن وضع اليهود في الصدارة ليس جديداً على السياسة الأميركية منذ كان هنري كيسنجر هو عراب ما صار معروفا بعملية السلام العربية الإسرائيلية.
وفي واشنطن، فإن الاعتقاد ذائع بأن ترمب في الأول والآخر هو رجل أعمال، وهو يدخل في القضية الفلسطينية الإسرائيلية كما يدخل رجل أعمال ناجح في صفقة لكي ينجزها. في دنيا المشروعات فإن نجاح المرء يقاس بما ينجح في إحرازه من صفقات؛ بعكس ما هو الحال في عالم الدبلوماسية عندما يكون أحيانا منع التوصل إلى صفقة جائزة كبرى. وفي الظروف الإسرائيلية الفلسطينية الحالية فإنه لا توجد دوافع داخلية تحفز على التوصل إلى صفقة، فلا اليمين الإسرائيلي يهمه مثل هذا النجاح، طالما يرى أن الأحوال الراهنة في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية تسير لصالح إسرائيل، وكذلك الحال في منطقة الشرق الأوسط كلها. وفي الماضي كان على إسرائيل أن تخوض حروباً لكي تكسب أرضاً أو نفوذاً تكلفها قتلى وجرحى وثمناً في الساحة السياسية والدبلوماسية، أما الآن فإن إسرائيل تحصل على كل شيء دون أن تريق نقطة دم، أو تنفق شيكلاً واحداً. الفلسطينيون رغم أوضاعهم التعيسة فإن انقسامهم إلى كيانين سياسيين يجعل من السعي إلى عملية تفاوضية نوعاً من القبول بالإخفاق المسبق، سواء كانت هناك صفقة كبرى أو لن تكون.
ولكن ترمب لديه دوافع أخرى ربما كانت أكبر من الإسرائيليين والفلسطينيين، فالشرق الأوسط يغلي بما هو أكبر وأعقد من القضية الفلسطينية الإسرائيلية، وما يجري في سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا بحسابات الدم والسلاح أكبر بكثير. وأكثر من ذلك أن لاعبين آخرين يدسون أصابعهم في كل هذه المسارح العسكرية والدبلوماسية مثل إيران وتركيا وروسيا، فضلاً عن عدد غير قليل من اللاعبين من غير الدول مثل «حزب الله» و«القاعدة» و«داعش» وغيرهم. وفي الساحة الفلسطينية الإسرائيلية فإن هناك حلفاء يشاركون الولايات المتحدة الحرب ضد الإرهاب، ولديهم تناقض جوهري آخر مع إيران، وفي ميادين الحروب فإنهم ليسوا على الجانب الروسي، وفوق ذلك وقبله فإن المصالح الاقتصادية الأميركية على جانبهم، فلديهم النفط والمال والأسواق، كما أن لديهم - لأسباب كثيرة - رغبة عميقة في حل الصراع العربي الإسرائيلي الذي عاش قرناً منذ وعد بلفور، وسبعة عقود منذ قرار التقسيم، و50 عاماً منذ حرب يونيو (حزيران) 1967 التي غيرت خريطة الصراع ومكوناته.
ولكن أياً كانت دوافع ترمب في الدخول إلى الساحة التي دخل إليها سابقوه، ومهما كان شكل ونوع الطريقة التي سيصل بها إلى المشكلة، فضلاً عن حلها؛ فإنه من وجهة النظر العربية فإن فهم الجانب الأميركي على أهميته ليس هو كل القضية. فعلى الجانب العربي لا بد من تفكير عميق في العملية الدبلوماسية السياسية التي بدايتها وصول المبعوثين الأميركيين إلى الساحة. منطلقنا في الأمر كله هو التوافق العربي على «المبادرة العربية» التي وافقت عليها القمة العربية عام 2002؛ والمبادرة هكذا مضى عليها 15 عاماً جرى تجديد التأييد لها مع كل قمة عربية تقريباً. ومع حقيقة أنه لا يوجد توافق عربي على منطلقات أخرى، وأن الشرق الأوسط، والمنطقة العربية فيه خاصة، تغلي بكثير من الصراعات، فإن للعرب مصلحة كبرى في أن تنجح مبادرتهم، وأن تكون صفقة ترمب هي التجسيد والتطبيق لهذه المبادرة وليس غيرها. العقبات الإسرائيلية معروفة وأساليبها خبرناها، ولكن ما يقف أمامنا في حل القضية الفلسطينية هو حالة الانقسام الفلسطيني. لقد سبق للعرب أن اختاروا مع الشعب الفلسطيني منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني؛ والآن فإن نقطة البداية للمساهمة العربية في العملية السياسية القادمة أن يكون ذلك حادثاً وصافياً ولا يوجد فيه شك؛ لقد قسمت «حماس» الشعب الفلسطيني، وقسمت أراضيه المتاحة، واليوم فإنها تستخدم كأداة في يد الإرهاب ضد مصر، ويد «حزب الله» وإيران ضد بقية الدول العربية. من دون وحدة التمثيل السياسي الفلسطيني فإن لا «صفقة» أميركية سوف تمر؛ ولا مستقبل للشعب الفلسطيني سوف يقوم.