رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

قانون الانتخابات اللبناني: الانفصال والتشرذم

منذ الدستور اللبناني الأول (1926 - 1927) واستطراداً إلى الميثاق الوطني (1943) فإلى دستور الطائف (1989 - 1990) ظلّت الطائفية حاضرة من رأس النظام إلى قاعدته. وفي المناسبات الثلاث، ومئات المناسبات الأُخرى الدستورية والبرلمانية كان يقال ويُكتب: إنّ الطائفية ضرورية ظرفياً (مراعاة للحساسية المسيحية) لكنها بالتأكيد مؤقتة، وسيهزمها تقدم الشعب اللبناني الحثيث نحو الدولة المدنية، دولة المواطنة والعيش المشترك! إنما في كل مرة يجري فيها البحث في أمرٍ صغيرٍ أو كبير ومنذ السبعينات من القرن الماضي وإلى تاريخ إقرار قانون جديد للانتخابات قبل أيام؛ فإنّ التطور المأمول يصبح معكوساً وأكثر بُعداً عن المواطنة المتساوية والعيش المشترك؛ بمعنى أنّ التوافقات داخل النظام السياسي تصل إلى تكريس أكبر للتطيف والتمذهب، والاتجاه إلى نظام «مساكنة» بدلاً من نظام مواطنة. وهذا ليس شتماً على شاكلة ما كان الشيوعيون واليساريون يقولونه عن نظام لبنان منذ الخمسينات من القرن الماضي. بل هي وقائع أشار إليها أخيراً القانون النيابي العتيد، بل إنه نصَّ عليها، وصُوِّرَ الأمر على أنه انتصارٌ للتوافقية الهائلة التي تميزت بها الصيغة اللبنانية العجائبية، في زمن وحقبة السيد والجنرال.
حتى العام 1990 ما كان المسلمون يتمتعون بالمواطنة الكاملة، بل كانت نسبة المسيحيين بحسب الدستور والقوانين 55 في المائة في عضوية مجلس النواب والوزراء في الحكومة ووظائف الفئة الأولى. وأعطى دستور الطائف أملاً لجهتين: إقرار المساواة بين المسيحيين والمسلمين، واعتبار الطائفية مؤقتة تنتهي عبر إجراءات معينة وانتخابات لمجلس نيابي محرَّر من القيد الطائفي. في حين يُنشأ مجلس شيوخ تتمثل فيه الطوائف. بيد أنّ أي تقدمٍ لهذه الناحية لم يحصل. وقيل وقتها إنّ البلاد خارجة من حرب أهلية، وإنّ الحساسيات المسيحية عالية. وفي المقابل أقبل المسلمون سنة وشيعة ومنذ الثمانينات من القرن الماضي، وعبر بياناتٍ وإعلاناتٍ واجتماعات مشتركة فيما بينهم ومع المسيحيين على التأكيد على ثلاثة أمور: أنّ لبنان وطنٌ نهائي لسائر بنيه، وأنه لا تطلع لديهم لأي إطارٍ أوسع أو آخر - وأنه لا اعتبار للعدد في التمثيل السياسي والوظيفي، فلا أكثرية ولا أقلية في الاعتبار الوطني والدستوري والقانوني - وأنّ الاعتبار الأعلى (كما في مقدمة دستور الطائف) هو للعيش المشترك، فلا شرعية لأي تصرفٍ يُخِلُّ بالعيش المشترك بين سائر فئات الشعب اللبناني وبخاصة عيش المسلمين مع المسيحيين.
بين العامين 2005 و2010 وعلى أثر اتهام السوريين و«حزب الله» باغتيال الرئيس رفيق الحريري، حصل نهوضٌ وطني كبير مسيحي - إسلامي، أخرج الجيش السوري من لبنان، وحوَّل المطالب المسيحية إلى مطالب وطنية، ففاز تحالف قوى 14 آذار في انتخابات العامين 2005 و2009 على المستوى الوطني، وصارت لديه أكثرية في مجلس النواب في الحالتين. إنما توالت ظواهر أُخرى: استمرار الاغتيالات في قوى 14 آذار (2006 - 2013)، ودعم تمرد فلسطيني أحدثه السوريون بمخيم نهر البارد، وحصار الحكومة اللبنانية بقصد إسقاطها، واحتلال بيروت عام 2008 من جانب ميليشيات «حزب الله» - ويوازي هذه الظواهر جميعاً في الخطورة: تحالف الجنرال عون مع «حزب الله» منذ العام 2006 وانصراف التيار الوطني الحر (حزب الجنرال) وصهر الجنرال الوزير جبران باسيل، وعشرات المسؤولين بالحزب، وطوال نحو السنوات العشر إلى حملة شعواء على السنة في لبنان باعتبارهم متطرفين وآكلي حقوق المسيحيين من طريق استيلائهم على الدولة عبر رئاسة الحكومة، وسوء النظام اللبناني الذي لم يسمح بمجيء الجنرال رئيساً للجمهورية منذ العام 1988 بسبب معارضة السنة لذلك (كان يقول من قبل: بسبب معارضة السوريين. لكنه عندما عاد إلى لبنان عام 2005 كان قد تصالح معهم). وقد أوصل إرهاب وترهيب «حزب الله» إلى تفكيك 14 آذار (انقلاب جنبلاط، ثم غياب سعد الحريري، ثم انقلاب جعجع)، وتوافق عون وجعجع عام 2013 على طرح مشروع قانون للانتخابات عُرف باسم: القانون الأرثوذكسي، لأنّ أول من فكّر فيه نائب أرثوذكسي سابق. ومشروع القانون الأرثوذكسي هذا كان يقترح الفصل الكامل بين المسيحيين والمسلمين في البلاد، بحيث لا يصوِّت للمرشحين المسيحيين في الانتخابات إلاّ مسيحي. والحجة في ذلك أنّ الدستور يطالب بالتمثيل العادل والصحيح لسائر الفئات، ولدى المسيحيين 64 نائبا بالمجلس، يشارك المسلمون في انتخاب نحو العشرين منهم، وهم يريدون أن يكون الـ64 كلهم ما انتخبهم غير مسيحي!
إنّ قانون الانتخابات الجديد لا يختلف جوهرياً عن الأرثوذكسي، وإن كان الأساس مختلفاً. فقد كان القانون السائد (منذ العام 1960) أكثرياً، بمعنى أنه يفوز فيه من يحصل على العدد الأكبر من الناخبين ضمن القضاء أو المحافظة. أما القانون الجديد فهو نسْبي. والنسبية نظامٌ متقدمٌ مطبَّق في دول كبرى. لكنّ تلك الدول فيها مواطنة ومساواة واتساق في القوانين وسلامة ومحاسبة. ولا شيء من ذلك له وجودٌ أو فعالية في لبنان. ثم إنّ هذه النسبية ما طُبِّقت على أنّ البلاد دائرة انتخابية واحدة، بل على أساس وجود 15 دائرة انتخابية مقسَّمة بأشكال تجمع الأكثرية الطائفية المعينة في كل منطقة من جهة، ثم تخترع ما يُسمَّى بالصوت التفضيلي، أي أنّ الناخب الذي يكون عليه أن يصوِّت للائحة مقفلة، ينبغي له أن يُظهر تفضيله لواحدٍ في اللائحة. والمتوافقون على القانون يعزّوننا بأنّ هذا الصوت ليس طائفياً حكماً، لكنه في الأغلب الأعم سيكون طائفياً. وذلك لأنني أنا السني على سبيل المثال ولكي أزيد حظوظ مرشحي السني في الفوز فسأعطيه صوتي التفضيلي. وهذا الأمر هو الذي أَرغم جبران باسيل وجعجع الفرقاء السياسيين الآخرين عليه بعد إذ لم يمكن إقناعهم بالانحشار الطائفي الصريح. بل وحصل ما هو أفظع من ذلك. فقد صارت بيروت دائرتين، جمعوا في الدائرة الأولى كل المسيحيين، وفي الدائرة الثانية كل المسلمين. وبالتالي فقد تم للمرة الأولى منذ العام 1926 فصل المسيحيين عن المسلمين تماماً في بيروت. وأنا أتوقع للأعوام القادمة أن يحصل انفصال في البلدية أيضاً، واستطراداً في النقابات، كما حصل في طرابلس! ويتوقع جبران باسيل بهذه الطريقة فوز خمسين مسيحياً دمهم أزرق، ما دخلت أي شائبة إسلامية في انتخابهم، وقال: إنه سيظل يناضل ليصبح العدد 64 من 64! وإلاّ فكيف يكون التمثيل المسيحي صحيحاً؟!
لماذا هذا كله، وكيف أمكن «التوافق» عليه؟ الذي طرح عوناً للرئاسة نصر الله ثم انضم إليه الحريري فصار رئيساً. والذي طرح النسبية نصر الله، وانضم إليها عون عندما داخلتْها الدوائر الـ15 والصوت التفضيلي، ووافق الرئيس الحريري عوناً وباسيل. ومصلحة عون وباسيل واضحة في فصل المسيحيين عن المسلمين. أما مصلحة نصر الله فهي أن الشيعة متماسكون فلا تؤثر عليهم النسبية بحيث ينجح أناس من غير محازبيهم، أما الآخرون وبخاصة السنة فسيتفككون فيسيطر الحزب وحلفاؤه (العونيون) على مجلس النواب، كما كان عليه الأمر أيام السوريين.
لقد ضاع العنوان الوطني، وعنوان العيش المشترك، وعنوان الطائف والدستور، وصار الأمر تقاسماً بين نصر الله وعون: لكم الوظائف والأعداد والصفقات، ولنا الدولة والنظام بالنواب الطاهرين طائفياً إن أمكن، وبالقوة الميليشياوية في كل آن!