راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

أم المعارك من التنف إلى دير الزور

يوم الأربعاء الماضي كانت «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، تتقدم على ثلاثة محاور عند أسوار الرقة القديمة، التي اختارها تنظيم داعش عاصمة لدولته المزعومة، ما يعني ميدانياً أن المعارك ستشتد الآن في وسط الرقة، بعد إكمال السيطرة على حي الصناعة في المحور الشرقي، والتقدم نحو حي حطين في المحور الغربي، والإطباق على مصنع السكر وقاعدة «الفرقة 17» العسكرية في المحور الشمالي.
يأتي ذلك بعدما كان النظام السوري قد أعلن نهاية الأسبوع الماضي أنه حقق، بالتعاون مع حلفائه الإيرانيين، تقدماً في الريف الغربي للرقة التي اخترق حدودها الإدارية، وسيطر على قريتي خربة محسن وخربة السبع، لكن ذلك لا يعني ميدانياً حتى الآن على الأقل أن قوات «سوريا الديمقراطية» باتت على أبواب مواجهة مزدوجة مع «داعش» داخل الرقة، ومع قوات النظام المتقدمة من الغرب.
من الرقة إلى دير الزور تمتد ساحة «أم المعارك» التي لن تقرر في نتيجتها مصير النظام وشكل سوريا الجديدة «المفدرلة» على ما سبق أن اقترح فلاديمير بوتين، بعد أشهر من بداية تدخله العسكري في سوريا أو «دولة الساحل» أو «سوريا المفيدة» التي قد تعني في النهاية الذهاب إلى التقسيم، بل إنها ستقرر عملياً مستقبل التوازنات الاستراتيجية على المستويين الإقليمي والدولي.
قبل الحديث عن حدود المواجهة الأميركية الإيرانية الروسية على مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية وحساباتها المستقبلية، يتعين فعلاً وضع علامات استفهام نافرة على ما أشارت إليه يوم الاثنين الماضي القناة المركزية لقاعدة حميميم العسكرية عبر «فيسبوك»، عن أن هناك محادثات سرية ناشطة بين الأميركيين والروس تجري في الأردن، هذا في حين تواكب واشنطن «قوات سوريا الديمقراطية» بالدعم الميداني والغطاء الجوي، وتواكب المدفعية الروسية تقدم قوات النظام وحلفائه من درعا إلى غرب الرقة.
صحيفة «وول ستريت جورنال» نقلت عن مسؤولين أميركيين بداية الأسبوع أن إدارة الرئيس دونالد ترمب منهمكة في محادثات سرية مع الروس في الأردن هدفها العمل على إقامة منطقة لتخفيف التوتر في جنوب غربي سوريا، وفي السياق تفيد تقارير دبلوماسية بأن هذه المحادثات بدأت في أبريل (نيسان) الماضي مباشرة بعد زيارة ريكس تيلرسون إلى موسكو، وأن ضباطاً أردنيين يشاركون فيها.
لكن في حين رفضت الخارجية الأميركية إعطاء أي تفاصيل عن هذه المحادثات، قالت موسكو إن الهدف هو تحديد نقاط أساسية للمرحلة المقبلة في سوريا، والبحث في إمكان توحيد الجهود المشتركة في محاربة الإرهاب المتمثل في «داعش» و«فتح الشام»، أي «جبهة النصرة» سابقاً.
وعندما تعلن موسكو عن أنه تم تحديد عدة مواقع قد تشارك أميركا وروسيا في شنّ غارات عليها لضرب مواقع الإرهابيين، ومنها الغوطة الشرقية ودرعا وريف حماة الشمالي وإدلب وبعض النقاط في ريف اللاذقية، فإن ذلك يطرح أسئلة عميقة حول معنى ومبررات اتصال سيرغي لافروف نهاية الأسبوع الماضي بندِّه ريكس تيلرسون ليعرب عن معارضة موسكو الشديدة لشن القوات الأميركية هجمات على القوات السورية!
تتسع حلقة التناقض عندما نتذكر أن الغارة الأميركية التي استهدفت رتلاً لقوات النظام وحلفائه، كان يتقدم في اتجاه معبر التنف الاستراتيجي على الحدود السورية العراقية، حدثت عندما كانت الاتصالات قائمة في عمان بين المبعوث الرئاسي الأميركي إلى التحالف الدولي بريت ماكغورك، والمبعوث إلى سوريا مايكل رتني من جهة، والمندوبين الروس، بما يعني أن موسكو كانت على علم بهذه الغارة التي تستنكرها!
يوم الثلاثاء الماضي أعلن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس أن عمليات القصف التي وقعت في الأسابيع القليلة الماضية ضد ميليشيات تدعم النظام السوري «كانت دفاعاً عن النفس»، وأن الولايات المتحدة ستتخذ كل الإجراءات اللازمة لحماية قواتها في سوريا، ويأتي ذلك في سياق مبارزة في رسم خطوط حمر متبادلة بين واشنطن من جهة والنظام السوري وإيران من جهة ثانية، على خلفية سباق ميداني محموم للسيطرة على الحدود السورية العراقية، التي تشكّل معابر استراتيجية للإيرانيين.
الغارة الأميركية على الرتل العسكري للنظام، كانت تأكيداً عملياً على ما أعلنه التحالف الدولي من أن تقدم قوات النظام نحو الحدود العراقية يعتبر خطاً أحمر، وأن من غير المسموح الاقتراب من مواقع الجنود الأميركيين والبريطانيين، الذين يقومون بتدريب فصائل «الجيش السوري الحر» الذي سيملأ الفراغ بعد طرد «داعش» من البادية السورية على الحدود مع العراق والأردن من منطقة التنف إلى دير الزور.
وعندما يرد النظام السوري على التحذير الأميركي بتحذير مماثل، وأنه قد يتصدى لأي قصف أميركي بضرب مواقع أميركية، فإن ذلك يعني أن منطقة البادية السورية والمسافة الممتدة من التنف إلى دير الزور تتحول إلى ساحة لصراع كبير لا تستطيع إدارة دونالد ترمب أن تتهاون فيه، ولا يستطيع النظام الإيراني أن يخسره، لكن سيكون طبعاً في استطاعة فلاديمير بوتين أن يستمتع كثيراً بهذا الصراع وبنتائجه المحتملة، ذلك أن المواجهة من التنف إلى الزور ستقرر مصير كثيرين على المستويين السياسي والاستراتيجي، ففي ظل موقف الرئيس الأميركي الذي ركّز ويركّز بشكل خاص على السعي لضبط إيران وإنهاء العربدة الإيرانية في الإقليم، ليس في وسع واشنطن أن تترك خطوط الإيرانيين مترابطة ومفتوحة لعبور السلاح والمسلحين من العراق إلى سوريا إلى لبنان، في شوقت تقول فيه إيران إنها باتت تسيطر على أربع عواصم عربية. إن خسارة أميركا المواجهة هناك ستعني خسارته نقطة حيوية مهمة جداً حول سياسته الخارجية.
وفي المقابل إذا خسر النظام الإيراني ما درج على تسميته «الهلال الشيعي» الذي يرتسم عبر هذه المعابر، والذي عمل على إقامته وترسيخه منذ ثلاثة عقود، فإنه سيتراجع وسيعود إلى حجمه الفارسي، وستسقط تباعاً مساحات النفوذ الإقليمي التي كسبها بإثارة المشكلات وبالتدخل السلبي في شؤون الدول الأخرى، التي يسعى إلى توسيعها عبر دعم الانقلابيين في اليمن ومحاولة الدخول الآن على خط الأزمة الخليجية مع قطر!
أمام خريطة الصراع الأميركي الإيراني على الحدود السورية العراقية، يجلس فلاديمير بوتين مرتاحاً إلى أن النتائج ستكون لمصلحته في الحالين، فإذا خسر ترمب رهانه على ضبط إيران، فسيتذكر الإيرانيون دائماً أنهم من دون روسيا كانوا سيواجهون خسارة محققة في سوريا، وإذا خسر النظام الإيراني فإنه سيتراجع ليكون لموسكو حصرية النفوذ في سوريا، خصوصاً أن خسارة الإيرانيين ستأتي على أيدي الأميركيين، ما يجعل طهران على ارتباط أعمق مع موسكو.
السؤال الأهم: ولكن في النهاية ماذا عن خرائط سوريا التي يعكف الأميركيون والروس على دراستها في الأردن؟