بكر عطياني
TT

روميو «أبو سياف» خائن أيضاً

في حدود الساعة الخامسة والنصف صباحاً، دق باب غرفتي المصور راميل. قال لي: «يجب أن ننطلق الآن، روميو وصل، وينتظرنا خارج السكن الطلابي». كنت قد استيقظت قبل ذلك وأعددت نفسي وأوراقي للقاء المتفق عليه مع قيادي في جماعة «أبو سياف» في جزيرة سولو. و«روميو» هو الدليل الذي سيقلنا إلى داخل غابات جزيرة سولو، لنلتقي بهذا القيادي، على أن نعود في أقل من ثلاث ساعات إلى مدينة هولو، مركز الجزيرة، لحضور الاحتفال الرسمي بيوم الاستقلال الفلبيني وتغطيته. كان ذلك في الثاني عشر من يونيو (حزيران) 2012.
الصحافي الذي كان يعمل منسقاً ومنتجاً معي في الفيلم الوثائقي الذي كنت أعده عن قضية مندناو ومسلمي جنوب الفلبين، اعتذر عن السفر معي من مانيلا إلى جزيرة سولو لظروف عمله، كما قال، لكنه قال إنه سيرتب اللقاءات التي أحتاجها هناك عبر معارفه، فهو يتحدر من تلك الجزيرة. قال لي: «أخي. ستكون في أيدٍ أمينة». وكرر ذلك في رسالة نصية أرسلها إلى هاتفي ليلة اختطافي.
كل شيء كان يسير بشكل مريب، بدءاً من مكان الإقامة الذي اختاره الصحافي، ابن سولو، وهو سكن طلابي في مدينة هولو، إلى إصراره على أن نرفض الإقامة عند حاكم الجزيرة أو محافظ المدينة إن طلبا ذلك، حتى لا يعرفا باللقاء الذي مع جماعة «أبو سياف».
كنت أنظر إلى الطريق و«روميو» يقود السيارة باتجاه الغابة، فيما ينتابني شعور بأنني لن أعود قريباً. كلما ابتعدنا عن المدينة ازداد عندي هذا الشعور. تعطلت السيارة مرتين، وفي المرة الثالثة ترك «روميو» السيارة في الطريق، وطلب مني وفريقي (راميل المصور، ورولاند مساعد المصور) أن نكمل الطريق سيراً. زاد ذلك من شعوري بالريبة. فلا يترك أحد السيارة ويكمل سيره إلا لأمر عظيم.
الشعور بالخطر اصطدم بإصراري على إكمال المهمة والحصول على سبق صحافي، فكي يكتمل الفيلم، كنت أريد أن أستمع إلى رأي جماعة «أبو سياف»، بعد أن استمعت إلى الأطراف المعنية في الصراع. هذا الأمر دفعني دفعاً وبلا وعي إلى إكمال المهمة مهملاً حدسي وكل ما يجري حولي.
وصلنا إلى أحد مداخل الغابة في منطقة باتيكول، معقل «أبو سياف» الرئيسي، فخرج لنا مسلحون من كل حدب وصوب بكامل عتادهم وسلاحهم. أخرج أحد المسلحين، وهو «أبو رامي» (قيادي في جماعة «أبو سياف» قُتل مؤخراً في كمين للجيش الفلبيني) مبلغاً من المال وسلمه إلى «روميو» الذي غادر، وبقينا مع المسلحين!
18 شهراً في الاختطاف في قلب غابات سولو، مع مجتمع ينتشر فيه الجهل بكل معانيه وصوره. حينما وصلهم نداء الشيخ محمد حسين، المفتي العام للقدس، بأن يفرجوا عني، استفسر أحدهم عن القدس، فقلت له: هل سمعت بالمسجد الأقصى؟ (وهنا أنقل بدقة وأمانة ما جرى) فقال: نعم. ذلك الذي في إسبانيا؟ فقلت له: ربما، لكن ما أعرفه أن الإسراء والمعراج كان من مكة إلى القدس وليس إلى مدريد أو برشلونة!
لم يكن سؤاله شيئاً مستغرباً بالنسبة لي، فهو صادق في سؤاله، وهذا هو مبلغه من العلم، فالجهل ضارب أطنابه فيهم وبينهم. كنت أستغرب حجم الجهل في البداية، لكن في الشهر السادس من اختطافي عرفت أن هناك عوالم أخرى على هذه الأرض لم أكن لأعرف عنها أو أسمع بها، لو لم أقض عاماً ونصف العام في غابات سولو.
في الشهر الأول من اختطافي، كانوا يجتمعون، نساء ورجالاً وأطفالاً حول الكوخ الذي احتجزت فيه، يراقبون كل حركاتي وسكناتي، وكأن مخلوقاً غريباً قد هبط إلى عالمهم.
حينما اتصل بهم مفتي سولو آنذاك الأستاذ عبد الباقي أبو بكر عبر وسطاء محليين، وأنّبهم على فعلتهم، قالوا عنه إنه مرتد، وإنه «يريد الدنيا» و«أخذ مال الفدية لنفسه»! قلت لهم: أما أنتم فمن أحل وشرّع لكم اختطاف شخص وعدتموه فأخلفتم وغدرتم، وسلبتم حريته، ثم تريدون منه أيضاً مالاً ليس لكم فيه أي وجه حق؟
بعد مرور خمسة أعوام على ما جرى معي، لا يبدو أن الوضع في جنوب الفلبين إلى الأفضل، بل تزداد الأوضاع سوءاً، فالخطف لا يزال قائماً، وإعدام الرهائن مستمر. الكنديان جون ريدسل وروبرت هول اللذان أعدمتهما جماعة «أبو سياف» في شهري أبريل (نيسان) ويوليو (تموز) 2016، قتلهما شخص أعرفه جيداً وكان من بين خاطفيّ، ويدعى بِنْ، وهو أُمي بامتياز، ومدمن مخدرات سابق.
اليوم أعلنت هذه المجموعات ولاءها لـ«داعش». فإضافة إلى المجموعات التي انشقت عن «جبهة تحرير مورو الإسلامية»، كمجموعة «مُعطي»، وفصيل من «مقاتلو الحرية الإسلاميون في بانغسامورو»، فإن عدداً آخر من مجموعات «أبو سياف» التحق بـ«داعش» في الفلبين، وأصبحوا جميعاً نواة لما أطلق عليه التنظيم «إمارة الفلبين» بقيادة إنسلون هابلون، القيادي السابق في جماعة «أبو سياف»، والذي لا يختلف كثيراً عن بن ومن حوله.
الحكومة الفلبينية والجيش ليسا بريئين، فقد ساهما في خلق نقمة بأوساط مسلمي الجنوب، وهنا الحديث يطول عن الفساد وعن المظالم. لكن القوم هم القوم لم يتغيروا. امتهنوا الخطف والسرقات باسم قضية شعب مورو، وأباحوا بجهلهم لأنفسهم فعل القبيح، لا عهد لهم ولا ذمة، فمقابلتهم التي وعدوا بها لم تكن سوى عملية غدر وخيانة، والوعود التي قطعوها على أنفسهم خلال المفاوضات باسم الله وباسم الدين كانت كذباً ومراوغة. حتى «روميو» الذي جعل منه شكسبير رمزاً للحب والوفاء، تحول إلى خائن لما ارتبط اسمه بـ«أبو سياف»!