بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

كفى تعني كفى

تذهب بريطانيا غداً إلى صناديق الانتخاب مسكونة بهاجس إرهاب يزعم مجرمون يرتكبونه أنهم «مجاهدون». عبّرت تيريزا ماي عن ذلك الهاجس بثلاث كلمات (Enough is Enough). كم حري بالمرجعيات الوازنة في العالم الإسلامي أن تطبق معنى تلك الكلمات: (كفى تعني كفى). أول المعنيين بالأمر هي الجهات المتولية الشأن الديني للمسلمين في المجتمع البريطاني. المسؤولية ذاتها تخص كذلك كل المؤسسات الإسلامية الدعوية في مجتمعات الغرب كافة. حقاً، لقد «طفح الكيل» - وفق ما ذهبت إليه ترجمة معظم منصات الإعلام العربية لكلمات زعيمة حزب «المحافظين». اللافت أن السيدة ماي أقرت بخلل تسامح زاد عن الحد مع «آيديولوجيا التطرف» في المجتمع البريطاني. هل حان وقت إقرار إسلامي بهذا الخلل أيضاً؟ أم أن كيل إرهاب أعمى البصر والبصيرة يجب أن يطفح أكثر، قبل أن يسارع علماء المسلمين الأفاضل لكف يد القتل وسفك دماء أناسٍ عزّل عبر طرح المسألة في موضوعاتهم؟
صحيح أن صدمة «لندن بريدج» ليل السبت الماضي روّعت بريطانيا وأثارت الذهول والغضب، لمجرد أنها وقعت بعد أيام من مجزرة «مانشستر أرينا»، لكن الصحيح كذلك أن صدور أغلب البريطانيين، ومن ضمنهم مسلمو هذا البلد، تمتلئ بغضب مكظوم إزاء استفحال سرطان الإرهاب باسم دين الإسلام. بعض ذلك الغضب بدأ يخرج للعلن عبر جرائم كراهية ضد المسلمين. صحيفة «صنداي تايمز» نشرت الأحد الماضي أن تلك الجرائم تضاعفت خمس مرات منذ جريمة «مانشستر أرينا»، والأرجح أنها سوف تستمر في الارتفاع. تقول أرقام ترددت عبر وسائل إعلام بريطانية إن أسماء ثلاثة وعشرين ألف مسلم موجودة على أجهزة «الرادار» الأمنية، بينهم ثلاثة آلاف خطرون، وجميعهم موضع رقابة. أثير جدل في برامج محطات الإذاعة وقنوات التلفاز، عما إذا كان من الجائز زج جميع هؤلاء في السجون قبل إقدام أي منهم على ارتكاب جرم إرهاب. الغلبة كانت لوجهة النظر القائلة إن مجرد الاشتباه لا يجيز سجن أي إنسان، حتى لو كان على وشك الإقدام على التجرد من إنسانيته وقتل الناس. هذه وجهة نظر حضارية تتعامل بمنطق القانون مع من هم غير معنيين بأي قانون أو منطق. لو طُرح الأمر في استفتاء عام، الأرجح أن أغلبية مسلمي بريطانيا أنفسهم (نحو ثلاثة ملايين) سوف يرجحون حبس كل مشتبه باحتمال تورطه في فعل إرهابي، ولو من باب الوقاية.
لكن، كما قيل مراراً من قبل، العلاج الأمني وحده ليس هو الحل. يبقى الأهم هو الإجابة عن السؤال: كيف يمكن التصدي لتجنيد الشباب المسلم، في بريطانيا وغيرها، في صفوف تنظيمات الإرهاب؟ كلام السيدة تيريزا ماي عن وقف «آيديولوجيا التطرف» قد يصدر عنها كرئيسة حكومة للمرة الأولى، لكنه ليس جديداً. تناول الموضوع عدد من الكتاب والمثقفين العرب والمسلمين، مرات عدة، وفي مواقع كثيرة، بينها «الشرق الأوسط». صحيح أن الكلام الجدّي مهم وذو مفعول، سواء صدر عن سياسي مسؤول أو عن مفكرين وكتّاب. لكن الأهم هو الفعل. أمام استشراء سرطان الإرهاب المنتحل اسم دين الإسلام، بدأت أقوال الإدانات اللفظية تفقد معناها. الأخطر أن تعبيرات تبرئة الدين الحنيف من بشاعات جرائم الإرهاب صارت تبدو مثل قوالب جاهزة، يُستعان بها عند كل جريمة. إذا بقي الحال على هذا المنوال، فالأرجح أن الاستدلال بعبارات تستند للنص، بلا شرح معاصر لها يستند إلى الواقع الراهن، لن يقي الشباب هش التفكير، من الوقوع في فخ فكر متطرف يفسّر له النصوص تفسيراً خاطئاً، ناهيك بأن يقنع المؤشرين بأصابع الاتهام للدين كله، سواء في الغرب أو الشرق، بل حتى في بعض أركان العالم الإسلامي نفسه.
هل الآتي أفظع؟ يبدو ذلك، إلا إذا قرر أولو أمر الدين الإسلامي بمجتمعات الغرب عموماً، وليس بريطانيا وحدها، أن يبادروا لاستعادة زمام أمور الإسلام من مختطفيه الإرهابيين، فكراً وممارسةً. بيد أن جهدهم هذا، إن حصل، لن يُثمر بلا دعم مؤازر من جانب المرجعيات الدينية الوازنة في العالم الإسلامي كله. إنما، حتى لا يغلب التشاؤم، فينتصر ظلام الإرهاب أعمى البصر والبصيرة، يجب الإبقاء على التفاؤل المستند إلى الإيمان بأن الغالب، في نهاية الأمر، هو نور السموات والأرض.