عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

هل بدأ الطلاق الأميركي ـ الأوروبي؟

كم كان الفارق كبيرا بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشق الأول من جولته الخارجية الأولى التي استهلها بالرياض، وفي الشق الثاني والختامي منها في أوروبا. فعلى الرغم من مشكلاته الداخلية، فإن ترمب كان مرتاحا من زيارته للرياض واجتماعاته هناك مع القيادة السعودية ومع قادة الدول الخليجية ومع القيادات الإسلامية، ثم خلال زيارته إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية والفاتيكان. لكن الوضع اختلف تماما في الشق الأخير من الجولة الذي التقى خلاله قادة دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل، ثم قادة الدول الصناعية السبع في صقلية، حيث طفت التوترات، وظهر حجم الخلافات خصوصا بين ألمانيا وإدارة ترمب.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كشفت عن عمق الأزمة التي تمر بها العلاقات الأميركية - الأوروبية، وعن التوترات مع إدارة ترمب، عندما صرحت قبل أيام بأن على الأوروبيين الاعتماد على أنفسهم، «لأن الزمن الذي كانت الثقة فيه سائدة، وكان بمقدورنا الاعتماد على الآخرين قد ولى». الكلام كان موجها بالأساس إلى أميركا ترمب، وكذلك إلى بريطانيا التي بدأت خطواتها العملية للانسحاب من عضوية الاتحاد الأوروبي (البريكست)، وبات بعض الأوروبيين يتهمونها بأنها أصبحت «حصان طروادة» لترمب الذي لا يكن ودا للاتحاد الأوروبي ولا يمانع في رؤيته يتفكك وينهار.
حلفاء أميركا في الناتو وفي أوروبا الذين أزعجتهم تصريحات وتغريدات ترمب منذ أيام حملاته في انتخابات الرئاسة الأميركية، كانوا يتشبثون بالأمل في حدوث انعطافة في تفكيره وسياساته، خصوصا بعدما سمعوه من تصريحات إيجابية من شخصيات مثل ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأميركي، ومن الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس وزير الدفاع. لكن مواقف ترمب في قمة الناتو وفي قمة مجموعة السبع أخيرا خيبت آمالهم.
فبعد تصريحات ميركل خرج رئيس الوزراء الإيطالي باولو جنتيلوني ليعلن اتفاقه مع تصريحاتها بشأن مستقبل أوروبا، وأهمية أن يتولى الأوروبيون مصيرهم بأنفسهم بدلا من الاعتماد على الآخرين. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أيضا يتفق مع الموقف الألماني، خصوصا بعدما لمسه خلال حملاته الانتخابية من انحياز ترمب وعدد من مستشاريه لمارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية المتطرفة المعادية للاتحاد الأوروبي.
المشكلة بالنسبة للأوروبيين أنهم يدركون أنه لا غنى لهم في الوقت الراهن، وربما في المستقبل المنظور، عن مظلة الحماية الأميركية، لأن هدف الاعتماد على النفس سيحتاج زمنا طويلا، كما سيتطلب زيادة كبيرة في إنفاقهم العسكري. ترمب بعقلية رجل الأعمال يعرف هذا الأمر، لذلك لا يبدو في وارد التهدئة أو التراجع، حتى بعدما حاول مسؤولون ألمان التأكيد على أهمية العلاقات مع الولايات المتحدة. فقد خرج بتغريدة أول من أمس يهاجم فيها ألمانيا مجددا بسبب الفجوة الكبيرة في ميزانها التجاري مع أميركا، و«لأنها تدفع أقل كثيرا مما يجب في ميزانية الناتو وللالتزامات العسكرية»، على حد تعبيره. الهجوم لم يتوقف عند هذا الحد، إذ أعقبه ترمب بتهديد لألمانيا بأن هذا الوضع لن يستمر وسيتغير «لأنه سيئ لأميركا».
ترمب في الواقع ليس الرئيس الأميركي الوحيد الذي شكا من عدم التزام الدول الأخرى في الناتو بالاتفاق الذي ينص على أن تخصص كل دولة ما يعادل اثنين في المائة من ناتج دخلها القومي للإنفاق العسكري. لكن الرؤساء السابقين كانوا يغلبون الدبلوماسية في تعاملهم مع ملف الإنفاق العسكري، كما كانوا يقدرون أهمية الناتو للمصالح الأميركية. فغالبية الأعضاء لم يلتزموا لسنوات طويلة بنسبة الإنفاق العسكري المتفق عليها، مما يعني أن الولايات المتحدة تتحمل وحدها ما يعادل 72 في المائة من ميزانية الناتو بإنفاق عسكري يصل إلى 664 مليار دولار سنويا، تليها بريطانيا بإنفاق عسكري يصل إلى 60 مليارا، ثم فرنسا بنحو 44 مليارا. أما ألمانيا فإن إنفاقها العسكري يصل إلى 42 مليار دولار، وهو ما يعادل نحو واحد في المائة تقريبا من ناتج دخلها القومي.
ترمب يراهن على أن استراتيجية الضغط سترغم الدول الأخرى على زيادة إنفاقها العسكري، لكن هناك من يحذر بأنه يخاطر بضرب تحالفات أميركا القديمة، وبإضعاف الحلف العسكري والسياسي الذي حمى أوروبا التي كانت صراعاتها سببا في حربين عالميتين كلفتا الكثير وتحملت أميركا قسطا من أعبائهما أيضا. كذلك هناك من يرى أن موقف ترمب من الناتو ولهجته إزاء الاتحاد الأوروبي يصبان في صالح روسيا، وقد يشجعان مغامراتها في محيطها بما يهدد بقية أوروبا. في الوقت ذاته فإن هذه المواقف تدفع ألمانيا للقيام بتحركات لحماية مصالحها، مما يعني توسيع نفوذها وقوتها داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصا بعد «البريكست» البريطاني. تنامي القوة الألمانية يزعج بالتأكيد بعض الدول، وقد يوقظ مشاعر التناحر القديمة، خصوصا في وقت تتنامى فيه الحركات الشعبوية والمتطرفة.
نتائج زيارة ترمب الأوروبية توحي بمزيد من التوترات، من دون أن يعرف أحد إلى أين ستقود بالنسبة لمستقبل الناتو والعلاقات الأميركية الأوروبية، وما يعنيه ذلك لبقية دول العالم.