جستن فوكس
TT

لماذا يتعرض الخبراء الأوروبيون إلى الهجوم؟

باتت النخب والخبراء في جميع أنحاء العالم الغربي عرضة للهجوم أكثر من أي وقت مضى. وتعد نخبة خبراء الاقتصاد الأكثر عرضة للهجوم، بعد أن تلقت مصداقيتهم ضربة مستحقة أثناء وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية.
لم تكن فرنسا استثناء في هذا الخصوص، ففي الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو (أيار) الحالي، ذهب 45 في المائة من الأصوات لمرشحين مناهضين لمؤسسات الدولة، وهي النسبة التي تقترب كثيراً من نسبة دونالد ترمب الذي فاز بأصوات 46 في المائة من الناخبين في الولايات المتحدة.
لكن فرنسا لا يقودها الآن شخص شعبوي، حيث يقودها الرئيس إيمانويل ماكرون الوسطي صاحب الشخصية البراقة ابن صفوة مؤسسات الدولة التربوية وربيب مؤسسات خدماتها المدنية وابن شركة «راثشتايلد أند كو»، ناهيك عن كونه وزيراً سابقاً للاقتصاد ببلاده خلال الفترة من أغسطس (آب) 2014 - أغسطس 2016. تمكن حزب ماكرون الجديد «إن مارشي» من تثبيت أقدامه سريعاً وبات جاهزاً لحصد كثير من الأصوات في الانتخابات التشريعية المقررة الشهر المقبل، مما يمكّن الرئيس الجديد من إحكام سيطرته الكاملة على مفاصل الحكومة بحلول الصيف المقبل.
وفي حال حدث ذلك، وحتى حال قام بعمل تحالف مع تيار اليمين الوسطي، فسوف يدفع ماكرون تجاه تنفيذ حزمة من الإصلاحات تحت إشراف نخبة من خبراء الاقتصاد للتغلب على حالة الرعب الاقتصادي الذي تعيشه فرنسا منذ فترة طويلة.
وقبل أي شيء، فسيكون ذلك درساً واضحاً يبيّن كيف أن أنظمة الانتخابات المختلفة يمكن لها الدفع بمواقف الناس تجاه نتائج في غاية التباين، وستكون اختباراً مذهلاً يبين ما إذا كانت تلك النخبة من كبار خبراء الاقتصاد يمكنها حقّاً أن تفعل الصواب.
وأتوقع حدوث ذلك في فرنسا لأن الأوضاع هناك نضجت بما يكفي. فعلى مدار السنوات القليلة الماضية، كانت البلاد قاب قوسين أو أدنى من الحصول على لقب «رجل أوروبا المريض» عن جدارة، حيث النمو الاقتصادي كان بطيئاً بصورة موجعة، وارتفعت البطالة بدرجة غير معقولة. لكن هناك بعض الحقائق المهمة التي ينبغي الالتفات إليها، منها أن العمال الفرنسيين يُعتَبَرون ضمن الأكثر إنتاجية في العالم ولا يضاهيهم في ذلك بالاقتصادات الكبرى سوى العامل الأميركي الذي يأتي بعده مباشرة. وعلى النقيض تماماً من الوضع في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا القريبين، فمن المتوقع نمو شريحة الناس في سن العمل خلال العقود القليلة المقبلة.
وتكمن المشكلة الأساسية في أن فرنسا لم توظف عدداً كافياً من أبنائها في سوق العمل. والتفسير المتبع الذي عادة ما يقدمه خبراء الاقتصاد لذلك (انظر التقرير الدوري الصادر عن المفوضية الأوروبية مؤخراً) هو أن أسواق العمل الفرنسية صارمة بدرجة كبيرة، وتعاني ضعف التنافسية وارتفاع الضرائب المفروضة على المشاريع وسوق العمل بدرجة كبيرة. فخلال الفترة التي قضاها وزيراً للاقتصاد، دفع ماكرون لعمل الإصلاحات بهدف التغلب على بعض تلك المشكلات، لكن النجاح الذي تحقق كان ضئيلاً. والآن أصبح ماكرون رئيساً بعد أن جرى انتخابه استناداً إلى ما وعد به من إصلاحات، وهو ما يعني أنه سيسير بخطوات أكبر هذه المرة.
لكن السؤال الأهم هو: إلى أي مدى سيسير ماكرون؟ ففرنسا معروف عنها مقاومتها للإصلاحات المستندة إلى حال السوق. ورغم أن هذه الجهود تعرضت خلال العقود الماضية للسخرية بوصفها محاكاة لرأسمالية رعاة البقر الأنغلوساكسونيين، فإن النموذج الذي يستطيع ماكرون الإشارة إليه حالياً هو النموذج التوتوني (قبيلة ألمانية عريقة) أو نموذج نورديك (شمال أوروبا). فالدول الأوروبية التي تقع شمال فرنسا تتمتع برفاهية اجتماعية وبوجود نقابات عمالية، وعادة ما يتمتع فيها العمال بالأمان الوظيفي، و(باستثناء بلجيكا) نجحت هذه الدول في السنوات الأخيرة في تشجيع الناس على العمل أكثر مقارنة بفرنسا والولايات المتحدة. ويبدو أن السر هنا يكمن في المرونة وفي التركيز على الاستثمار في المستقبل بدلاً من محاولة الإبقاء على الوضع الراهن.
مرة أخرى، من الصعب التفكير في أن تصبح فرنسا فجأة في نباهة الدنمارك أو السويد. لكن في الحقيقة، هي ليست مطالبة بذلك، ففرنسا تتمتع بصورة براقة، فنسبة التوظيف بالنسبة لعدد السكان كانت رائعة حتى في وقت الأزمة الاقتصادية العالمية. لكن بعد الأزمة ببعض الوقت، وبعد حدوث أزمة اليورو الطويلة، كان الضرر الذي أصاب فرنسا كبيراً، لكن الآن تقول المؤشرات إن الرياح المعاكسة بدأت تهدأ وبدأ الاقتصاد في النمو وبوتيرة متسارعة. وفي كلمات أخرى، قد يكون ماكرون محظوظاً لأنه جاء في هذا الوقت. فإجراءات حماية الوظائف لن تكون حقل ألغام سياسياً كما كان في السابق، في حال قامت الشركات بتوظيف العمال، وسيساعد النمو عملية الإصلاحات التي يقوم بها ماكرون على أن تظهر نجاحاً، حتى قبل أن تؤتي ثمارها الحقيقية.
في الحقيقة، هناك مشكلتان عميقتان في سوق العمل تبدوان عسيرتين على الحل، لكنهما ستدفعان النمو للأمام لسنوات حال تمكن ماكرون وخبراؤه من إيجاد حلول لها. الأولى هي العدد الكبير من المهاجرين المعزولين عن سوق العمل بفرنسا، والمقصود هنا فجوة التوظيف بين أبناء الوطن والوافدين، وهي فجوة كبيرة في فرنسا مقارنة بغيرها من دول أوروبا. ليس هناك سبب في أن نجعل من هذا الأمر قضية، ففي الولايات المتحدة يجد المهاجرون فرصاً أكبر في التوظيف مقارنة بالفرص في بلادهم، غير أن السماح بقدوم المزيد من المهاجرين إلى سوق العمل ربما يتطلب تعديلات في قوانين سوق العمل وبرامج التدريب المهني.
القضية الأخرى هي العدد الضخم من الخريجين الفرنسيين الطموحين الذين بحثوا عن فرص عمل في أماكن أخرى خلال العقدين الماضيين، وكان هذا ما عبر عنه الكاتب ديلفغي بروتون بصحيفة «وول ستريت جورنال»، بداية الشهر الحالي، عندما قال: في وقت ما بعد افتتاح «القنال الإنجليزي» عام 1994، خلال حكم الرئيس السابق جاك شيراك، بدأ هؤلاء الشباب في السفر خارج البلاد. فهذا العدد من خريجي مدارس «ليسي»، و«هنري الرابع»، و«ستانسلي» فكروا فيما يمكن أن تقدمه لهم فرنسا وزهدوا فيه، وقرروا الرحيل إلى نيويورك، وبعضهم إلى وادي السليكون والغالبية إلى لندن.
لكن بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ستصبح بريطانيا مكاناً أصعب للعيش بالنسبة للفرنسيين، وأصبحت الولايات المتحدة أخيراً أقل ترحيباً بالمهاجرين، مما يعني أن الوقت الحالي يمثل فرصة سانحة لفرنسا. ولذلك فالسلطات الفرنسية تعمل بجد على إقناع المؤسسات المالية لنقل عملياتها إلى فرنسا، وهو الجهد الذي وجد دفعة كبيرة بعد انتخاب ماكرون رئيساً. فالعمل على منع جفاف العقول عمل شاق، لكن حتى العمل على إبطاء وتيرة سيعتبر انتصاراً في حد ذاته. فببعض التخفيضات الضريبية القليلة هنا، وببعض الزخم هناك، ربما يبدأ القطار في السير.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»