إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

احتلال بحجة مكافحة الإرهاب

حسَنا فعَل وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف، بكشفه استراتيجية طهران الإقليمية، بعدما كان التعبير عنها خلال السنتين الأخيرتين محصورا بحلفاء إيران وأتباعها في المنطقة العربية.
ظريف قالها بصراحة في قلب الغرب لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي): «أعتقد أننا جميعا، بغض النظر عن خلافاتنا بشأن سوريا، نحتاج إلى العمل معا فيما يتصل بالقضية الطائفية.. تجارة ترويج الخوف سائدة، ويجب أن لا يحاول أحد إذكاء لهيب العنف الطائفي. يجب أن نكبح جماحه، وأن نُنهيه لمحاولة تفادي صراع سيقوّض أمن الجميع»، متهما، وفق «بي بي سي»، زعماء دول عربية «بإذكاء لهيب العنف الطائفي». هذا الكلام يستنسخ منطق بشار الأسد ومسوغاته لتدمير سوريا وقتله أكثر من 160 ألف إنسان، ويزكي كلام بشار الجعفري سفير نظام الأسد لدى الأمم المتحدة، قبل شهور، عن أن نظام دمشق «يقاتل التكفيريين نيابة عن العالم كله». ويُضاف إلى المواقف المعلنة والمنفذة للسيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله اللبناني، الذي «اكتشف» أخيرا أن خطر «التكفيريين» أكبر من خطر الاحتلال الإسرائيلي، ما يستوجب وقف «الحزب» مقاومته إسرائيل للتفرغ لقتالهم. وأخيرا لا آخرا، هناك المواقف الرسمية لحكومة نوري المالكي في العراق بالاتجاه نفسه، ولقد عبّر عنها المالكي خلال زيارته الأخيرة لواشنطن.
نحن إذن أمام «أوركسترا» يقودها «مايسترو» في طهران، فيستغل بدهاء الجرح العميق في الذاكرة السياسية الغربية الذي فتحته هجمات «11 سبتمبر (أيلول)» 2001 في الولايات المتحدة وارتداداتها الأوروبية. وهنا الرسالة واضحة: نحن «أهل الاعتدال»، وأولئك هم «أهل التطرف».. ففاضلوا واختاروا!
واستطرادا، تقول الرسالة عينها: اقبلونا كما نحن.. بنظامنا الإلهي - الميليشياوي، وقضائنا الاعتباطي، ونهجنا الانتقامي ضد معارضي الداخل، ومشاريعنا النووية التي خدعناكم بشأنها 18 سنة.. أولا لأننا في حالة الدفاع عن النفس ضد «الإرهاب التكفيري»، وثانيا في حالة الدفاع عنكم وعن مصالحكم!
في المقابل، يجب الإقرار بوجود ما يخدم هذه الاستراتيجية تماما. ومن دون الحاجة لأن نناقش مجددا دور إيران ونظام دمشق النشط والمُزمِن في رعاية جماعات وشراذم «جهادية» و«تكفيرية»، فإن مشاعر الإحباط على امتداد العالمين العربي والإسلامي ساعدت حقا، مع عوامل أخرى، على خلق مرارة عميقة أفضت إلى تعزيز حضور الطروحات الدينية المتطرفة والإلغائية.
هذا الوضع الكارثي شهدناه على أرض سوريا، حيث أجهزت بعض الجماعات المتطرفة على العديد من الإنجازات الميدانية للثورة، وقاتلت «الجيش الحر» أكثر من قتالها النظام الذي تكفّره وتهدر دم أتباعه. ولم يقتصر ضرر هذه الجماعات على الشق الميداني، بل كان مدمرا على الصعيد السياسي أيضا. إذ أدت التجاوزات البشعة التي ارتكبتها هذه الجماعات بحق المواطنين ودور العبادة والمعالم الثقافية داخل المناطق المحررة، إلى تردد كثرة من الساخطين على النظام - عسكريين ومدنيين - في اتخاذ قرار الانشقاق. وبالتالي، أطالت عمر النظام، وأعطت جرائمه في أنظار البعض أسبابا تخفيفية.
وخارج سوريا، جاءت ممارسات هذه الجماعات أشبه بغطاء «يستر عورة» تقصير المجتمع الدولي في مناصرة المظلوم ومعاقبة الظالم. وحتى عندما ارتكب النظام جريمة استخدام الغاز القاتل في غوطة دمشق جاء من يشكك بهوية الفاعلين، ويتيح الفرصة للمجتمع الدولي وسط اللغط المفتعل.. حصر المأساة السورية كلها بـ«الأسلحة الكيماوية».
النظام السوري، الذي سبق أن وصفه القيادي المعارض جورج صبرا ذات يوم بأنه «لا يحكم سوريا بل يحتلها»، تُرسِّخ «احتلاله» راهنا ميليشيات إقليمية لبنانية وعراقية مركز إمرتها في طهران. وفي العراق، أيضا، يتذكر العراقيون قرار مَن كان وراء تولي السيد المالكي منصب رئاسة الحكومة، وبدعم مَن يحظى للبقاء في السلطة بوجه معارضيه، وبالتالي مَن يحكم العراق فعلا.
أما لبنان، ثالث الكيانات الثلاثة التي تحتلها إيران فعليا.. عبر «حزب الله»، فما زالت ماثلة في أذهان اللبنانيين سرعة أجهزة الدولة العسكرية والأمنية في تصفية ظاهرة الشيخ أحمد الأسير في مدينة صيدا بالقوة، خلال يومين. غير أنها، اليوم، تعجز عن مواجهة ميليشيا محلية في مدينة طرابلس أقدم زعيمها - بالوراثة - على «هدر دم» أحد الأجهزة الأمنية الحكومية علنا على شاشات التلفزيون، وتحدى رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب.ة
الكيانات الثلاثة محتلة بحجة «مكافحة الإرهاب التكفيري»، وهذه هي الحجة التي تسوقها الآن طهران أمام المجتمع الدولي بدبلوماسية ظريف، وتحت غلالة اعتدال حسن روحاني، والاستعداد للتفاهم على الملف النووي. وحتى اللحظة، وسط الضغوط الممارسة على المعارضة السورية للمشاركة في «جنيف 2» من دون ضمانات أو شروط مسبقة.. يظهر أن ظريف حقق الاختراق الذي يسعى إليه.
صحيح هذا الاختراق ليس كاملا، لكن الصحيح أيضا أن فصل ملف البرنامج النووي الإيراني عن سياسات طهران التوسعية في المنطقة، يوازي سكوت المجتمع الدولي عن جرائم نظام دمشق لقاء نزع سلاحه الكيماوي.
لقد فرضت طهران جدول أعمالها في الموضوع منذ البداية. إذ شددت، وما زالت، على الطابع السلمي للبرنامج، ثم شكت من ازدواجية المعايير في ضوء امتلاك إسرائيل وباكستان القدرات النووية. ومن ثم بدأ مسلسل المساومة حول معدلات التخصيب وعدد مفاعلات الطرد المركزي، وتوجيه رسائل متناقضة حول آليات التفاوض.. إلى أن وصلنا إلى ما نحن بصدده اليوم.
نحن الآن إزاء إيران تمتلك حقا التكنولوجيا النووية. والخبراء العالميون يجزمون بأن مسألة تطويرها السلاح النووي قد تكون مسألة أشهر لا غير. وعليه، ما على المجتمع الدولي بحثه بصراحة هو «القرار السياسي» لدولة باتت - شئنا م أبينا - «دولة نووية».
«القرار السياسي» لإيران لا يحتاج إلى تساؤلات. إنها تريد الاعتراف بها قوة إقليمية عظمى، وهذا الطموح لا بد أن يدفع ثمنه آخرون. ومن هنا يحق لجيران إيران أن يقلقوا من أي صفقة تُعقد معها من دون كبح طموحها السياسي الإقليمي، الذي بلغ، في ثلاث حالات على الأقل، وضع الاحتلال الفعلي.