د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

حديث الدولة الفيدرالية

سواء كانت المفاوضات ستُجرى في آستانة أو في جنيف أو في الكويت أو في فيينا، في الأمم المتحدة أو بين أروقة الجامعة العربية، في مسارات أولية أو مسارات ثانوية، في مفاوضات مستمرة أو متقطعة بالدبلوماسية أو بالحرب، فإن قضية الأعراق والملل والنحل والإثنيات سوف تفرض نفسها. لم يعد هناك مجال للإنكار أن بعض الدول العربية يشهد معضلة التعامل مع الأقليات، وأزمة إدارة التنوع فيها، خصوصاً بعد أن جرى الاحتكام للسلاح. ولم يعد يكفي طرح الموضوع باعتباره تدخلات أجنبية وهي صحيحة، ولكن القاعدة الأصلية هي أن التدخل لا يحدث إلا إذا وجد الساحة سانحة، والأرض خصبة وممهدة، والظرف مواتٍ.
كان جيمس روزناو من بين علماء السياسة هو الذي وضع القانون العام لحركة الدول والمجتمعات في أعقاب انتهاء الحرب الباردة بأنها سوف تتراوح ما بين «الاندماج» (Integration) و«التفكيك» (Disintegration)، وكان النموذج الأوروبي شاهداً على الاندماج والتكامل بين شعوب وقبائل وأمم ودول تحاربت على مدى التاريخ في ظل النظام الليبرالي الرأسمالي، وكان تفكيك الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وغيرهما شاهداً على عجز القدرة على إدارة التنوع والتعددية في المجتمع والدولة. ولكن بعد مضي ربع قرن تقريباً على هذا المقترب، فإن المسألة الآن تبدو أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. فالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بدأ مرحلة للتفكيك لم تكن متوقعة، وتصويت شعب القرم للانضمام إلى روسيا أعاد أشكالاً للتوحيد لم يظن أحد أنها لا تزال قائمة.
معادلة «التفكيك» و«التوحيد» هذه سوف تظل معنا ولا توجد فيها «روشتات» صالحة لجميع الأمراض، وإنما لا بد فيها من الإبداع السياسي والدبلوماسي. ومثل هذا الإبداع كان حاضراً في التجربة اللبنانية على كل مشكلاتها ثلاث مرات على الأقل عند تأسيس الدولة اللبنانية، ولإنهاء الحرب الأهلية الأولى في خمسينات القرن الماضي، واتفاقية الطائف التي وضعت نهاية للحرب الأهلية الثانية التي استمرت ستة عشر عاماً. ولكن مثل هذا الإبداع لم يكن قائماً عندما جرى تناول الحالة العراقية بعد الغزو الأميركي عام 2003، ربما بسبب اليد الثقيلة للولايات المتحدة، ولا كان موجوداً عندما أقام السودان فيدراليته، فانتهى به الأمر إلى التقسيم إلى دولتين. ومع ذلك، فإن هناك تجارب عالمية تستحق النظر، وكثيراً ما طرحت الفيدرالية كحل لكثير من المعضلات التي تواجهها بلدان عربية كثيرة. فقد طرحت من قبل المؤتمر الوطني العام في اليمن، كما تردد ذكرها في محاولات حل الأزمة السورية. ومع ذلك، فإن الفكرة الفيدرالية في عمومها ليست من أشكال الحكم المحببة في البلدان العربية، على أساس أنها المقدمة الدائمة للانفصال والتفتيت للدولة العربية التي نريد لها البقاء. وللحق، فإن التجربة في السودان كانت محزنة، إذ انتهى الحل الفيدرالي إلى انفصال الجنوب، ومن بعده، فإن دارفور خاضت حرباً ضد الحكومة المركزية، ودخل الجنوب حرباً أهلية استناداً إلى تقسيمات قبلية وجغرافية. وفي العراق، فإن النتيجة النهائية كانت محزنة، فقد باتت الأقاليم الشيعية والسنية والكردية كما لو كانت مقدمات لدول.
وفي الحقيقة، فإن «الفيدرالية» هي نمط من أنماط الدول المركبة التي تتضمن نوعين من السلطة؛ واحدة هي الجامعة لإرادة المشاركين في الدولة، وأخرى لمكوناتها، سواء كانت ولايات أو أحياناً تحمل اسم «دولة» بالمعنى المجازي للكلمة. ورغم توزيع السلطات بين السلطة العليا الفيدرالية والأقاليم، فإنه في كل الأحوال لا يتضمن ذلك توزيعاً للسيادة، وإلا كان ذلك انفصالاً حقيقياً، وهو ما حرص الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن على تأكيده، حينما حاولت الولايات الجنوبية الانفصال عن الولايات المتحدة عام 1860. هذا النمط من الدول المركبة شائع بشدة في العالم، وهو الأكثر شيوعاً بين الدول الكبرى في عالم اليوم، مثل الولايات المتحدة، والهند، وروسيا، وألمانيا، وإيطاليا، وماليزيا، والبرازيل، ونيجيريا، وأستراليا، وكندا، وغيرها من الدول.
والحقيقة أيضاً أن «الفيدرالية» كنمط من أنماط تنظيم «الحكم» في الدولة، لا يكون ناجحاً إلا باستيفاء شروطه، وما لم يتم ذلك، فإن الفشل سيكون من نصيبه. ويكون النجاح ممكناً عندما لا يقتصر قيامه فقط على محاولة حل النزاعات والصراعات والحروب الأهلية بين جماعات تنتمي إلى تقسيمات جغرافية متجاورة، فلا بد أن يكون متوافراً مع ذلك بعض من المصالح المشتركة التي تقع في مقدمتها الحماية والقدرة على الدفاع في مواجهة دول كبيرة وذات تاريخ توسعي. وعلى الرغم من أن «الأمن» يقع دوماً في مقدمة الشروط، فإن السوق الاقتصادية المشتركة للبشر والسلع والبضائع، والعملة الموحدة، تعتبر من أدوات التوحيد التي تكون قابلة للنمو وتوسيع المصالح بين الأطراف المختلفة المشاركة في الدولة. وقد اكتسب ألكسندر هاملتون مكانته في التاريخ الأميركي، ليس فقط بوصفه واحداً من أهم المؤسسين للدولة، ولكن أيضاً مما نشره في «الأوراق الفيدرالية» التي دعا فيها إلى ضرورة إنشاء بنك وطني موحد للولايات المتحدة الأميركية، يكون مختصاً بإصدار العملة وإدارة تعاملاتها، والحقيقة – ثالثاً - أنه لا توجد فيدرالية سيئة أو فيدرالية فاضلة وجيدة، إلا بقدر من الشروط والمكونات التي تقوم عليها، وبقدر ما تكون الفيدرالية أحياناً مقدمة لانفراط عقد الدولة، فإنها تكون أحياناً أخرى أداة لزيادة وحدتها، بل وأحياناً الحفاظ عليها من الانفراط أو الاغتيال بالاستيلاء عليها من دول أخرى أكثر إصراراً وعزيمة وعدوانية.
أما الهند، فربما كانت الأكثر تعقيداً بين التجارب الفيدرالية، فعلى الرغم من أنها فشلت في استيعاب بعض من المسلمين داخل الدولة الفيدرالية عند استقلالها، فانفصلوا مؤسسين لدولة باكستان، التي انقسمت بعد ذلك إلى باكستان وبنغلاديش، فإنها في النهاية استوعبت القدر الأكبر من المسلمين حتى إنها باتت الآن الدولة الثانية بعد إندونيسيا من حيث عدد المسلمين بها. وتضم الفيدرالية الهندية 29 ولاية و7 مناطق اتحادية لها أوضاع خاصة، فضلاً عما منحه الدستور لجماعات أو طوائف تقع في داخل ولايات مختلفة من حقوق بعينها في التعليم والزواج والثقافة. ولكن على الجانب الآخر، فإن تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة تشير إلى درجة كبيرة من النجاح، ليس فقط لأنها استمرت على الرغم من وجود سبع إمارات مشاركة فيها، ولكن أيضاً لأن شواهد ومؤشرات كثيرة تشير إلى أن الدولة الآن أكثر اتحاداً من أي وقت مضى.
الخلاصة أن الفكرة الفيدرالية ليست سيئة بالضرورة، ويمكنها مع بعض من الخيال أن تكون واحداً من الحلول لكثير من مشكلاتنا المستعصية، وأهمها معضلة التوفيق بين التعددية السياسية والإثنية، والحاجة الماسة للدولة الموحدة.