ستيفن ميهم
TT

صناعة الطيران: إنهاء تكديس الطائرات ضرورة

جاءت المعلومات، التي كشف عنها هذا الأسبوع حول أن شركات الطيران تعتمد مسألة الإفراط في قبول الحجوزات على طائراتها كسياسة لها وأن بمقدورها إجبار ركاب على مغادرة طائراتها، بمثابة صدمة للملايين من شيكاغو إلى الصين. ومع ذلك، فإن الحقيقة أن هذا قديم قدم صناعة الطيران ذاتها.
مع تحركها نحو توسيع نطاق الخدمة أواخر أربعينات القرن الماضي، ناضلت شركات الطيران في مواجهة مشكلة الركاب الذين يتخلفون عن الحضور في اللحظة الأخيرة ـ بمعنى أولئك الذين حجزوا مقاعد على الطائرات، لكن لم يحضروا إلى المطار. كانت تلك مشكلة خطيرة، ذلك أن إقلاع طائرة بنصف مقاعدها خالية ـ أو حتى قليل من مقاعدها ـ يعني أن تحليقها ربما يجلب خسارة على الشركة، أو يقلص الأرباح بدرجة خطيرة.
وهنا، ظهر الإفراط في قبول الحجوزات كحل، وإن كان هذا الحل ربما اهتدت إليه الشركات بمحض الصدفة. قبل خمسينات القرن الماضي، كان حجز تذاكر الطيران عملية تعتمد على التقنية بدرجة يسيرة. وكان لدى كل شركة طيران «لوحة رئيسية» داخل مقرها الرئيسي تظهر عليها جميع المقاعد المتاحة على متن أي طائرة، في الوقت الذي احتفظ كل مكتب من المكاتب الإقليمية بنسخة من هذه اللوحة.
وكان المشرف على اللوحة يضع إشارة خضراء بجوار الرحلات التي لم يتبق بها سوى مقاعد قليلة خالية، بينما يضع علامة حمراء بجوار الرحلات التي حجزت جميع مقاعدها. إلا أن هذا النظام المعقد لم يعمل على أرض الواقع بطريقة سلسة، وعليه كان من السهل الإفراط في بيع تذاكر على متن طائرة بعينها عن طريق الخطأ.
إلا أن شركات الطيران سرعان ما أدركت أن هذا الإجراء لم يمثل مشكلة حقيقية، ذلك أن كل رحلة طيران كان لها نصيبها من أولئك الذين يتخلفون عن الحضور. ولم يمر وقت طويل قبل أن يدرك المسؤولون التنفيذيون أن الإفراط في حجز المقاعد على الطائرات يشكل استراتيجية رائعة لجني المال.
ومع ذلك، لم تقدم شركة واحدة على الإقرار بمسؤوليتها عن هذا الابتكار، بل على العكس قضى المسؤولون التنفيذيون بهذه الشركات سنوات في نفي تعمدهم الإفراط في حجز تذاكر الطيران على متن الطائرة الواحدة.
بحلول عام 1950، أصبحت هذه السياسة تجري على نطاق واسع ـ وكذلك الشكاوى من ركاب غاضبين. ومع ذلك، استمرت السياسة، وبدأ الكونغرس، تحت ضغط من الناخبين الغاضبين، يحث على اتخاذ إجراءات لمواجهتها. في يونيو (حزيران) 1956، شنت السيناتورة الجمهورية مارغريت تشيس سميث، من ولاية مين، هجوماً لاذعاً ضد شركات الطيران بسبب «فظاظتها». وبعد شهر، بعث مجلس الطيران المدني (الكيان السابق للوكالة الفيدرالية للطيران والمجلس الوطني لسلامة النقل الأميركي) برسالة تحذير إلى شركات الطيران الكبرى للتوقف عن هذه الممارسة.
وبالفعل، تراجعت معدلات شكاوى الركاب بدرجة كبيرة، لكنها عاودت الارتفاع بصورة هائلة في غضون شهور قلائل. لذلك، شرع مجلس الطيران المدني في تنفيذ إجراءات ضد شركتي «ناشيونال» (استحوذت عليها «بان أميركان» لاحقاً) و«إيسترن» (التي أفلست عام 1991. لكن بعد أن باعت حصة منها إلى دونالد ترمب). وجرى توجيه اتهامات للشركتين بالإفراط في بيع التذاكر ودفع أموال نقدية للعملاء تعويضاً عن المصاعب التي واجهوها، وهي ممارسة كانت غير قانونية في ذلك الوقت. (نظراً لأن الركاب الذين كانوا يتعرضون للطرد من على متن الطائرات، كانوا يتلقون شروطاً أفضل عن باقي الركاب، اعتبر مجلس الطيران المدني ذلك نوعاً من «التمييز»).
في المقابل، حاربت شركات الطيران، مدعية أن أي إفراط في حجز التذاكر وقع كان نتاجاً لخطأ غير مقصود، وليس سياسة ممنهجة. إلا أنه في حقيقة الأمر إذا أردنا طرح وصف مهذب لهذا الادعاء فهو أنه ببساطة غير محتمل للغاية. وفي الوقت الذي أقرت القيادات الكبرى داخل شركات الطيران هذه الممارسة، عكفت القيادات الإقليمية على تنفيذها.
خلال العقد ذاته، انتقل مجلس الطيران المدني من نقيض إلى النقيض في خضم محاولاته تناول هذه المشكلة، ففي عام 1961 أيد المجلس خطة طرحتها شركات الطيران لمعاقبة الركاب الذين يخفقون في اللحاق بطائراتهم، لكنه تخلى عن الفكرة بعد عامين. وبعد دراسة متأنية، عكس المجلس مساره بإقراره سياسة الإفراط في حجز التذاكر، مع الحرص على إطلاق تسمية لطيفة عليها: «الإفراط المنضبط في حجز التذاكر». وأشار المجلس في تقرير أصدره عام 1967، إلى أنه من خلال هذه السياسة «يمكن لشركات الطيران تقليص عدد المقاعد الفارغة وفي الوقت ذاته خدمة الصالح العام من خلال استيعاب أعداد أكبر من الركاب».
وفي الوقت الذي لم يطرح المجلس تعريفاً محدداً لمصطلح «منضبط»، فإنه خول لشركات الطيران الحق في تقديم تعويض يكافئ قيمة التذكرة الأصلية للركاب الذين يجري إخراجهم عنوة من الطائرات. إلا أن هذا الحل انطوى على أوجه قصور، على رأسها أنه أخفق في إدراك أن الركاب ربما يرغبون في قدر أكبر من المال لتعويضهم عن المشكلات التي تعرضوا لها (أو ربما يبدون استعدادهم لتقبل مبلغ أقل عن قيمة التذكرة).
من جانبه، اقترح الخبير الاقتصادي جوليان سيمون في مقال بعنوان «حل يكاد يكون عمليا لمشكلة الإفراط في حجز تذاكر الطيران» نشره في دورية أكاديمية غير معروفة عام 1977، اقترح سيمون حلاً مبتكراً: هو أن تجري شركة الطيران مزاداً يقترح خلاله الركاب المبالغ التي قد يقبلونها مقابل الخروج من الطائرة وإلغاء السفر. وفي نهاية الأمر، يحصل أصحاب المبالغ الأقل على إيصال بالمبلغ المقترح ويخرجون من الطائرة، بينما يسافر الباقون في الموعد المحدد. وكتب سيمون أنه: «بذلك تستفيد جميع الأطراف، ولا يخرج أي منها خاسراً».
في الواقع، لم يتوقع سيمون أن يجري التعامل مع مقاله بجدية، خاصة أنه كتبه بنبرة ساخرة، بل وأعرب فيه عن توقعه بأن ترفض شركات الطيران الفكرة باعتبارها «غير لائقة».
ومع هذا، يبدو أن فكرة سيمون كانت جيدة، وبالفعل شرعت شركات الطيران تدريجياً خلال السنوات التالية في إقرار صورة أولية من فكرة عقد مزاد، مع طرحها إيصالات بمبالغ معينة، وحال رفض الركاب، تلجأ إلى رفع السعر. وفي السنوات الأخيرة، تحركت بعض شركات الطيران لما هو أبعد من ذلك من خلال مبادرتها إلى سؤال الركاب لدى حجزهم لتذاكر حول حجم المبلغ الذي ربما يقبلونه مقابل التخلي عن مقعدهم في الطائرة.
إلا أنه للأسف جرى مزج نظام المزاد بالقواعد الأقدم التي تنظم حجم الأموال التي يمكن دفعها للركاب. اليوم، يقف هذا الرقم عند 400 في المائة من قيمة التذكرة الأصلية، بحد أقصى 1.350 دولار.
وإذا كان لدى الجهات التنظيمية رغبة حقيقية في حل هذه المشكلة إلى الأبد، فإنه يتعين عليها أولاً إلغاء هذا الحد الأقصى، ثم تنفيذ مقترح سيمون بصورة كاملة.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»