فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

الاستخبارات تقرأ أيضا

إنها واحدة من أكبر العواصف الأدبية في الحرب الباردة؛ ففي ذلك الوقت من الخمسينات والستينات، كانت المخابرات تقرأ، والحق أنها قارئة جيدة.
أكثر من 130 وثيقة حصل عليها بيتر فن وبترا كوفيه في السابع من هذا الشهر في جريدة «واشنطن بوست» حول الدور الذي لعبته المخابرات المركزية الأميركية في التاريخ الأدبي للقرن العشرين. وهذه الوثائق تكشف للمرة الأولى كيف روجت «سي آي إيه»، بمباركة مجلس الأمن القومي، لرواية «دكتور زيفاغو» للروائي والشاعر الروسي بوريس باسترناك، التي كانت سببا رئيسا في منحه جائزة نوبل للآداب عام 1958، وأكثر من هذا، عملت الوكالة، من خلال شبكاتها السرية، على توزيعها داخل الاتحاد السوفياتي السابق، مستخدمة إياها سلاحا أدبيا ضد الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة.
عن هذه الرواية، كتبت الوكالة حينها إلى رؤساء الفروع كافة المختصة بالتجسس على الاتحاد السوفياتي: «هذا الكتاب ذو قيمة دعائية عظيمة، ليس فقط بسبب رسالته الجوهرية وطبيعته المحفزة على التفكير، ولكن أيضا بسبب ظروف نشره. إن هناك فرصة لتوعية مواطني الاتحاد السوفياتي بأخطاء حكومتهم وجعلهم يتساءلون عن سبب عدم توفر كتاب أدبي رائع كتبه رجل جرى الاعتراف به كأعظم الكتاب الأحياء في وطنه، لكن مواطنيه لا يستطيعون قراءته».
وكان باسترناك قد هرب هذه الرواية إلى ناشر إيطالي، ونشرت عام 1957.
وبدأت القصة عندما أرسلت المخابرات البريطانية - ومن غيرها؟ - إلى مقر المخابرات الأميركية، رزمة تتضمن أفلاما عن رواية «دكتور زيفاكو» للغة الروسية، فتلقفت «سي آي إيه» الهدية غير المنتظرة، وحولتها إلى سلاح أدبي أثبت فعاليته ضد الاتحاد السوفياتي السابق.
وسرعان ما أصدرت المخابرات نفسها طبعة ممتازة باللغة الروسية في لاهاي صدرت سنة 1958 بالاتفاق مع المخابرات الهولندية، لتغطية أي تورط لها، وأخرى ورقية في مكاتبها، حتى من دون أن يعرف باسترناك نفسه، وهربتها إلى الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية حيث وزعت آلاف النسخ بطريقة سرية، وكذلك وجهت تعليمات لموظفيها بحثّ السياح الغربيين على الترويج للرواية بين الروس الذين يمكن أن يلتقوهم.
وتسرد مقتطفات من الوثائق، التي حصل عليها الكاتبان من وكالة المخابرات المركزية أثناء إعدادهما كتبا عن بوريس باسترناك بعنوان «قضية باسترناك» الذي سينشر في شهر يونيو (حزيران) المقبل، من دون أن يكشفا كيفية الحصول عليها، كيف طلب من فروع المخابرات في الخارج الترويج للرواية في أوروبا، وكتابة مراجعات عنها في كبريات الصحف الأوروبية، وحتى ترشيح الكاتب لجائزة نوبل، وحتى ما تحقق فعلا عام 1957. (رفض باسترناك الجائزة فيما بعد بسبب ضغط سلطات بلاده عليه).
هذه الفضيحة ستعيد إحياء الاتهامات الموجهة دائما للأكاديمية السويدية ولجنتها التي تمنح جائزة نوبل، بخضوعها للتأثيرات السياسية على حساب القيمة الجمالية؟ هل كانت لجنة نوبل قد سمعت باسم باسترناك أساسا لولا هذه الدعاية الهائلة للرواية؟
هل كان صاحب «دكتور زيفاغو» يستحق الجائزة؟ في تقديرنا أنه كان يستحقها، ولكن ليس بوصفه روائيا، بل بوصفه شاعرا. إنه واحد من أهم شعراء القرن العشرين. ولعل لجنة نوبل ظلمته حين منحته الجائزة بصفته روائيا، حاجبة إنجازه الشعري الضخم. ثم، لماذا هذه الرواية بالذات؟ ألم يكن أجدى بالمخابرات اختيار رواية «المعلم ومرغريتا» لميخائيل بولغاكوف، التي يقدم لنا فيها ذلك الساحر الغرائبي، الكلي القدرة، المتلاعب بالجميع مثل ستالين تماما؟
يبدو أن الاستخبارات الأميركية اختارت «ديكتاتور زيفاكو»، التي حولت فيما بعد إلى فيلم مثَّله عمر الشريف كما هو معروف، لطابعها الرومانسي، المختلط بدراما عائلية في السنوات التي أعقبت ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917. ومن هنا تأثيرها الإنساني البالغ على القراء.
ألم نقل إن الاستخبارات، وخاصة الأميركية، تقرأ جيدا؟