لا توجد قضية أو خلاف بين بلد عربي وآخر، مهما كانت أهميته أو عمقه، أثقل وزناً من الناحية الاستراتيجية، يتجاوز وزن وأهمية تلك القضايا والتحديات التي ترد عليهم من البيئة الإقليمية والدولية المحيطة بهم. ومما جعل هذه المعادلة أكثر حدة، أن مجموع الدول العربية تعرّض لثلاث عواصف متزامنة أضافت التحديات الداخلية إلى تلك الخارجية، وهي: عاصفة ما سُمي الربيع العربي ونتائجها، سواء عندما انهارت دول؛ أو حتى عندما صمدت وانتصرت فإن الثمن لم يكن بقليل. وعاصفة الجماعات الإرهابية الراديكالية التي عاثت فساداً في دول عربية، آخذة أشكالاً سياسية وعسكرية ربما كانت أكثرها ظهوراً ما سُمي دولة الخلافة المزعومة بين سوريا والعراق، ولكن أشكالها الأخرى في دول عربية أخرى لم يكن أقل استنزافاً للقدرات والموارد. وعاصفة انخفاض أسعار النفط التي حرمت بلداناً عربية كثيرة من موارد وقدرات كان يمكن تعبئتها في مواجهة العاصفتين السابقتين. العواصف الثلاث شكلت مضاعفاً مهماً للتحديات الإقليمية التي أعطت لدول فرصاً لم تكن متاحة لها من قبل، فضغطت إيران على دول عربية عدة، ووجدت إسرائيل الفرصة لدوام احتلال للأرض الفلسطينية ساعد عليه أن الفلسطينيين باتوا يعيشون أكثر أوقاتهم ضعفاً وانقساماً.
وفي 16 مارس (آذار) 2017 نشر يوسي ألفر (عمل بالموساد الإسرائيلية، وترأس مركز جافا للدراسات الاستراتيجية بجامعة تل أبيب، وله مؤلفات كثيرة في الصراع العربي الإسرائيلي) مقالاً في صحيفة «فوروارد Forward» بعنوان «حرب إسرائيل الكبرى القادمة» طرح فيه سيناريو مؤداه أن تعقيدات الموقف السوري الراهن من الممكن أن تقود إلى مواجهة إسرائيلية إيرانية بسبب المتغيرات الجارية في الحرب الأهلية السورية، والنفوذ الذي وصل إليه «حزب الله» في لبنان بحيث بات مهيمناً رسمياً في الجنوب على حساب الجيش. وفي اليوم التالي لنشر المقال بدا وكأن السيناريو قابل للتحقيق، عندما قامت طائرات إسرائيلية بقصف قواعد لـ«حزب الله» في سوريا، وفي طريق عودتها قامت سوريا بمتابعة الطائرات بالصواريخ؛ وحسب الرواية السورية فإنه تم إسقاط طائرة منها. الرواية الإسرائيلية نفت ذلك، ولكنها ذكرت أنها نجحت في التصدي للصواريخ باستخدام الصواريخ المضادة من طراز «أرو». صحة الروايات هنا ليست الأمر المهم، وإنما الاحتمالات المتفجرة للحالة السورية وتأثيرات ما بها من نار ولهب، ليس فقط على سوريا والعراق ولبنان، وإنما على دول الجوار العربية.
لاحظ هنا أن الأطراف المختلفة للأزمة السورية خلقت لنفسها جسوراً بالسلاح والسياسة مع روسيا، التي كانت الفاعل الأساسي الذي غيّر من توازن القوى في الحرب الأهلية السورية. ففي 9 مارس الماضي قام نتنياهو بزيارة لموسكو كانت الرابعة خلال ثمانية عشر شهراً؛ وربما كان الظاهر منها فقط التنسيق بين نشاط الطائرات الروسية وتلك الإسرائيلية في الأجواء السورية، ولكن لا أحد يعرف تحديداً ماذا يوجد تحت قمة جبل الثلج. المدهش أن روسيا أيضاً لديها تنسيقها الخاص مع إيران، وبالتالي «حزب الله» وباقي المقدمات من جماعات شيعية قادمة من العراق وأفغانستان، والتي أدت إلى نوع من الإدارة المشتركة مع تركيا للأزمة السورية. فإذا أضفنا إلى كل ذلك حالة الغموض في الموقف الأميركي الذي يتحرك من ناحية في اتجاه مزيد من الوجود العسكري للمشاركة في معركة تحرير الرقة؛ ومن ناحية أخرى موقف وزارتي الدفاع والخارجية الأميركتين من اعتبار روسيا خصماً في الساحة السورية، ومن ناحية ثالثة موقف الرئيس ترمب ذاته في أنه يمكن التوافق مع روسيا، والرئيس بوتين شخصياً، في أمور كثيرة وممتدة بين قارات العالم بما فيها سوريا.
مثل هذه المواقف المتداخلة ليست جديدة على التاريخ الخاص بالصراعات الكبرى، كتلك التي يعيشها الشرق الأوسط والمنطقة العربية في أعقاب العواصف المشار لها من قبل. وعندما يكون الحال كذلك في مواجهة الدول العربية، فإن الواقع الإقليمي بأخطاره المميتة يفرض حقيقة أنه لا توجد دولة عربية واحدة تستطيع مواجهة هذه الأخطار وحدها، وأن الخلافات العربية كافة - أياً كانت - تتضاءل أمام هذه الحالة. الأهم من ذلك أن كل درجة من العلاقات العربية ـ العربية الوثيقة تعطي لكل دولة عربية على حدة قدرات أكبر في إدارة التحالفات الدولية، والتعامل الحكيم مع القوى الكبرى التي لا تنظر فقط لكل دولة وحدها، وإنما حسب قدرتها على التأثير الإقليمي. وخلال الفترة القصيرة الماضية حدث تطوران مهمان على الساحة العربية: أولهما أن العلاقات المصرية ـ السعودية أخذت اتجاهاً إيجابياً بدأ بإشارات رمزية، وانتهى بتحركات إيجابية تصب في النهاية داخل اللحمة العربية وقدراتها وقوتها. والآخر أن القمة العربية في عمان باتت على الأبواب، وفيها أن فرصة إضافية قد وجدت ليس فقط لتحقيق صفاء أكثر في علاقات عربية متعددة، وإنما أيضا لمحاولة رسم طريق مشترك للدول العربية الرئيسية لكي تتعامل مع الواقع المعقد والمتفجر المشار إليه من قبل.
صحيح أن القمة العربية في الماضي لم تكن دائماً الساحة التي تبعث على التفاؤل، ولكن الواقع أن القمة تحدث في ظل ظروف بالغة الصعوبة للدول العربية جميعها والتي باتت لديها درجة من الواقعية تسمح لها بخلق طريق جديد للتعاون العربي. هذا التعاون يمكن تسميته أنه نوع من «العروبة الجديدة» التي تقوم على تلاقي مصالح استراتيجية ملحة على كل الأطراف العربية، ولا يوجد لدى كل طرف عربي وحده إمكانات التعامل المنفرد معها. هي لا تماثل «العروبة التقليدية» التي مرت بالمنطقة خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وقامت على أساس من «أمة عربية ذات رسالة خالدة» وتسعى إلى الوحدة بين أقطارها في اتحاد عربي من المحيط إلى الخليج. وبعد عقود على ما جرى، فإن الدرس الناتج هو أن الدول العربية لديها ظروف مختلفة تستعصي على مثل هذا التصور الذي ثبت فيما بعد أنه طريق للفرقة أكثر منه سبيلاً إلى الاتحاد.
مسعى «العروبة الجديدة» لا يزيد ولا يقل عن إقامة نظام للأمن الإقليمي يكفل سلامة وأمن الدول العربية، التي صمدت وتعاملت مع العواصف السابق الإشارة إليها، وفي الوقت نفسه الاستعادة التدريجية لتماسك دول عربية أصابتها فيروسات الراديكالية والعنف والحرب الأهلية والتفكك على أسس طائفية. مثل هذا النظام لن يكون سهلاً في منطقة بمثل هذا التعقيد المشار إليه، والتحديات المترتبة على هذا التعقيد والتي تعطي ميزات استراتيجية لدول تحاول تحقيق أهداف إمبراطورية. ولكن أياً كانت الصعوبات التي تواجه مثل هذا النظام؛ فإن استمرار الأوضاع الراهنة على ما هي عليه سيكون لها أثمان فادحة، سواء توافقت قوى دولية على إدارة الصراعات في الإقليم، أو تصارعت قوى إقليمية على توزيع الغنائم فيه. التفاصيل في كل ذلك بالطبع كثيرة، وإذا كان يقال إن الشيطان يكمن في التفاصيل، فإن الحكمة والبصيرة تجعلانها عامرة بالملائكة التي تشهد على واقع لم يعد قابلاً للاستمرار.
8:14 دقيقه
TT
نحو عروبة جديدة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة