فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

الستار الحديدي الروسي لا يزال كثيفاً

يمكن القول باطمئنان إن ثلاثة آداب أجنبية أثرت تأثيراً بالغاً في الأدب العربي المعاصر، بدرجات ليست متباعدة كثيراً: الأدب البريطاني والفرنسي والروسي. لقد تعرفنا أولاً على الأدب الروسي ونماذجه العملاقة، ويا للمفارقة! من خلال اللغة الفرنسية، حين نقل لنا المترجم الفريد سامي الدروبي كل أعمال دوستويفسكي، 12 مجلداً، عن هذه اللغة في ترجمة لا تقل جمالاً عن الأصل، حسب شهادة الكثيرين ممن يعرفون الروسية. وقرأنا على يده أيضاً أربعة مجلدات من أعمال ليو تولستوي، وبعض أعمال بوشكين وميخائل ليرمنتوف. وكذلك فعل المترجمان فؤاد أيوب وأخوه سهيل أيوب.
لكن ترجمة الأدب الروسي إلى العربية عرفت ازدهاراً كبيراً مع نمو وصعود الحركة الاشتراكية، ثم تأسيس ما سمي آنذاك «الأنظمة التقدمية»، وخصوصاً في مصر والعراق وسوريا - وهي تسمية أطلقها ما سمي حينها «العلماء السوفيات».
لقد نشطت في تلك الأيام «دار التقدم» السوفياتية، معتمدة على عشرات الكتّاب والمترجمين العرب المعروفين المقيمين في روسيا، ودور نشر عربية أيضاً في ضخ الأدب الروسي للسوق العربية، ولكنهم ركزوا بشكل خاص على تلك الأعمال التي أدرجوها، أو فهموا أنها يمكن أن تدرج ضمن مفهوم «الواقعية الاشتراكية» سيئ الصيت، الذي حرم الأدب الروسي، وحرم البشرية، من نتاج شخصيات أدبية عملاقة. نعم، عرفنا الكثير، ولكن غاب عنا الكثير أيضاً. عرفنا مثلاً يفتشينكو، على الرغم من عدم توافقه تماماً مع السلطة السوفياتية آنذاك، لكننا لم نعرف شاعراً مجايلاً يفوقه أهمية في رأينا هو أندريه فوزنسكي، الذي يعتبر على نطاق واسع واحداً من أهم الشعراء المعاصرين الأحياء، لأنه كان مغضوباً عليه من السلطة، و«نصحه» مرة نيكيتا خروشوف بمغادرة الاتحاد السوفياتي. وبالتأكيد هناك العشرات الذين لا يقلون عنه قيمة، في الرواية والشعر، لا يزالون مجهولين عندنا.
لم تترجم لنا دار «التقدم» ودور النشر العربية، مثلاً، كتاباً مثل موريس باسترناك أو آنا أخماتوفا، فقد اعتبرت أعمالهم «أعمالاً معادية». وأكثر من هذا، حورب باسترناك، مما اضطره للتنازل عن جائزة نوبل للآداب. أما أمّ الأدب الروسي أخماتوفا، فقد أعدم زوجها الأول عام 1921 لـ«نشاطاته المعادية للثورة»، ومات زوجها الثاني في معسكرات الأشغال الشاقة. وأدينت هي بسبب «ميولها البرجوازية»، ومنعت من النشر. وما وصلنا من أعمال هذين العملاقين وصلنا متأخراً، بجهد شخصي من مترجمين خارج السرب، وغالباً عبر لغة ثالثة، وخصوصاً الإنجليزية. فقد عمل في الستينات والسبعينات كتاب ومترجمون في بريطانيا على نقل كتابات هؤلاء الكتاب الرجيمين، الذين سموهم «منشقين»، وكذلك كتابات زملائهم في البلدان الاشتراكية السابقة، وعرفوا العالم بهم، في ظروف بالغة القساوة، وعبر مغامرات كثيرة للوصول إليهم، واختراق الستار الحديدي.
لكن هذا الستار لا يزال قائماً بعد أكثر من جيلين من سقوط الاتحاد السوفياتي.
وإذا كان القارئ العربي لا يزال على تواصل جيد مع الفرنسي والبريطاني عبر الترجمة، أو مباشرة، غير أنه لا يكاد يعرف شيئاً عن الأدب الروسي، الذي شكل أحد الروافد الأساسية في أدبنا في مرحلة متقدمة.
الستار الحديدي لا يزال كثيفاً.