قبل 100 عام تقريباً قطع الحاج عبد الله فلبي صحراء الربع الخالي من نجد حتى سواحل حضرموت على المحيط الهندي، وأخرج لاحقاً كتابه الشهير «بنات سبأ». سبأ الأكبر الذي يرجح النسابة والمؤرخون أنه الأب الأول لمعظم القبائل والشعوب التي سكنت جنوب الجزيرة العربية واليمن. شق فلبي طريقه وسط رملة السبعتين ومصاري العبر وعروق عساكر التي كانت في زمن سبأ - المملكة - تقسمها مياه السد العظيم إلى جنتين عن يمين وشمال. وواصل الطريق الصحراوي حتى وقف على أطلال مدينة شبوة - الرابضة تحت أحقاف هضبة حضرموت شمالاً - عاصمة مملكة حضرموت قبل الميلاد. كل ما جمعه الرحالة فلبي من آثار وما دونها عن نقوش المسند في تلك الرمال والقيعان المقفرة، تحكي ملحمة بنات سبأ وحضارتها المزدهرة في عصور غابرة، دروب مضمخة بالبخور واللبان، حصون وقلاع وعروش. وملك عظيم، ملك وممالك ساق لنا القرآن أسباب زوالها، بظلمهم أنفسهم، فخمط وأثل وشيء من سدر قليل. بارك الحضارم الشيء القليل بحسهم التجاري وتدبيرهم الاقتصادي، حتى جعل السدر الشجرة التي يستفاد من كل أجزائها. الزهرة لا جود العسل الدوعني والورقة لأجود بلسم الشعر من غيل باوزير والسيقان للبناء والنجارة، والجذع للفحم والرماد، حتى الرماد له استعمالات متعددة في حضرموت. وهكذا استثمروا «درس السدر» في إدارة إمبراطوريتهم التجارية من شرق أفريقيا إلى جنوب شرقي آسياوالهند، ومن زيلع وسواكن ومواني الحجاز إلى سواحل الخليج العربي.
إلى جانب أبحاثه العلمية كرحالة، ناقش الحاج فلبي مع الحضارم الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية، وعلى وجه الخصوص، استتباب الأمن والأمان في ظل حكم الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، وتأمين الحجاج، وقطع دابر السُّرَّاق وقُطَّاع الطرق الذين كانوا يشكلون أكبر تهديد للسكان وعابري السبيل. واقترح رسم طريق قصير وآمن لحجاج حضرموت وأخواتها من السلطنات المحلية التي كانت تستظل بالحماية البريطانية في مشرق اليمن. بعد رحلة فلبي بثلاثة عقود طرحت بريطانيا على سلطنات المحمية الشرقية - عاصمتها المكلا - خيار الاستقلال أو الانضمام لاتحاد إمارات الجنوب العربي الذي أنشأته بريطانيا مطلع الستينات، وكانت سلطنات المحمية الشرقية قد رفضت الانضمام للاتحاد، وقاومت الضغوط البريطانية بهذا الاتجاه. وكشف المؤرخ الدكتور صالح باصرة عن مساعٍ متقدمة بين سلاطين المحمية الشرقية لبناء وتشكيل اتحاد فيدرالي مستقل ونسج علاقات خاصة - كونفدرالية مثلاً - مع جيرانه في الإقليم والمنطقة.
إذا كان تسارع الأحداث منتصف ستينات القرن الماضي، وتمدد حركة النضال التحرري من مستعمرة عدن ومحميتها الغربية إلى تخوم حضرموت وأخواتها قد قطعا الطريق على مشروع الاتحاد الفيدرالي في محمية عدن الشرقية، فإن مشروع الدولة الفيدرالية الذي نتج عن مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وفقاً للمبادرة الخليجية 2011م، يقدم صيغة جديدة للفيدرالية في اليمن بنسخة مختلفة نسبياً عن المشروع المطروح سابقاً في المحمية الشرقية، لكنها نسخة مواكبة للأحداث السياسية من تاريخ الصراع على السلطة في اليمن لستة عقود مضت، وموائمة لتطور وتحديث النظام السياسي مع بروز وتنامي المطالب بالعدالة والمساواة والشراكة السياسية وحتى الحكم الذاتي وحق الشعوب في تقرير مستقبلها السياسي. إن وثيقة الحوار الوطني المتوافَق عليها وطنياً والمدعومة إقليمياً ودولياً تقدم -لأبناء المحافظات الشرقية من اليمن- مشروعاً سياسياً جاذباًللشراكة في السلطة وعدالة اقتسام وتوزيع الموارد بين أطراف الاتحاد، ومن ناحية أخرى حماية دستورية لخصوصيتهم الثقافية والاجتماعية وفرص أكبر في التنمية وضمانات إقليمية ودولية على المستوى السياسي. ولا يزال الجدل السياسي - منذ 10 سنوات - حول تنفيذ هذه الخطة الوطنية أو الخريطة الإقليمية والدولية محتدماً، ومصداقية الأطراف اليمنية على المحك، أما أبناء المحافظات الشرقية - المحمية الشرقية سابقاً - فيتطلعون كما يتطلع أبناء اليمن للدور السعودي في تجذير هذا السياق التوافقي بشأن إحلال السلام في اليمن. ورفض تغيير الخرائط، ورسم حدود النفوذ أو عسف حقائق الجغرافيا والتاريخ ومصادرة إرادة الشعوب. باستخدام القوة من أي طرف كان.
