جستن فوكس
TT

حان الوقت لإعادة إيقاظ حارس الرأسمالية القديم

عانى النظام الرأسمالي العالمي خلال عشر سنوات من أصعب ما يكون. وقد نتفق جميعاً على ذلك.
وهناك العديد من التفسيرات التي توضح الأوضاع السيئة التي آلت إليها الأمور: اللوائح غير المناسبة، واللوائح المفرطة، والتسهيلات النقدية المفرطة، والمحفزات المالية غير الملائمة، وعدم المساواة، والركود العلماني، سمها ما شئت.
غير أن فولفغانغ ستريك لديه احتمال آخر للنظر والاعتبار: ربما أن الرأسمالية في أيامها الأخيرة.
والسيد ستريك هو عالم اجتماع ألماني، والمدير الفخري لمعهد ماكس بلانك لدراسة المجتمعات في كولونيا. ولقد شغل منصبه هذا منذ عام 1995 بعد العمل كمحاضر لسنوات عديدة لدى جامعة ويسكونسن الأميركية في ماديسون. وبعد فترة ليست بالطويلة من عودته إلى ألمانيا، أصبح معنياً وبشكل متزايد بالجهود المبذولة لصياغة السياسات الاقتصادية، محاولا بصورة رئيسية «الدفاع عن النظام الألماني لمشاركة العمال، والذي تعرض لضغوط كثيرة من اتجاهات الأوروبة والعولمة». ومن وجهة نظر خارجية، بدت هذه الجهود وكأنها حققت قدراً متواضعاً من النجاح، ولكنها تركت السيد ستريك في حالة من التشاؤم المستمرة.
قال لي السيد ستريك عند زيارتي لمكتبه يوم الجمعة الماضي: «اعتدت أن أكون إصلاحياً، كما اعتدت أن أكون ديمقراطياً اجتماعياً. وكنت أومن أنه من خلال السياسة الجيدة يمكننا إخضاع ماكينة الثروة الرأسمالية وجعلها تابعة للأهداف السياسية».
وفي الوقت الحاضر، يعتقد أن ماكينة الثروة الرأسمالية باتت خارج نطاق السيطرة، وظل السيد ستريك يعرب عن معتقداته تلك في الكتب التي، ولدهشته الكبيرة، جذبت المزيد من الاهتمام الكبير خارج ألمانيا نفسها. وأولها كان كتاب بعنوان «شراء الوقت: أزمة الرأسمالية الديمقراطية المتأخرة»، الذي نشر باللغة الألمانية في عام 2013، ثم باللغة الإنجليزية في عام 2014، وهناك الآن طبعة منقحة من الكتاب باللغة الإنجليزية في الأسواق. ثم ألف كتاباً آخر يحمل عنوان «كيف ستنتهي الرأسمالية؟»، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات، والتي ألفت باللغة الإنجليزية، ووجدت طريقها للنشر في خريف العام الماضي.
لم أقرأ كل كلمة مكتوبة في هذين الكتابين، لكنني أعتقد أنه يمكنني القول بنوع من الثقة أنه ليست هناك صدمات جديدة تعرضها كتب السيد ستريك، الذي قال لي حول كتابه الأخير (كيف ستنتهي الرأسمالية؟) أن هناك فكرة بسيطة للغاية يدركها الجميع، وهي أن كل شيء له بداية لا بد وأن يصل إلى النهاية. وفي استعراض صحيفة «فايننشيال تايمز» للكتاب المشار إليه، وصف مارتن وولف «انهزامية ستريك قبالة القوى الاجتماعية الافتراضية الخارجة عن السيطرة» بقوله «إنها خاصية من خصائص ذلك النوع الخاص من المثقفين». وهو توصيف صحيح، ولكنه قد يكون في واقع الأمر نوعاً مفيداً من المثقفين الذين يظهرون بيننا من وقت لآخر.
قال لي السيد ستريك: «أومن بالاتجاهات وبالميول والنزعات طويلة المدى، وليس بالمقارنات اللحظية العارضة. كما أنني أومن بالتاريخ وليس بالآليات والماكينات»، وخبراء الاقتصاد يمثلون عنده الآليات والماكينات. وعبارتي المفضلة من كتاب «شراء الوقت» هي توصيف السيد ستريك لوزير الخزانة الأميركية الأسبق لورانس سومرز بقوله «الخادم الأكثر آلية في ماكينة الرأسمالية التراكمية المتعثرة» – الوصف الذي يجدر بالسيد سومرز إضافته إلى بطاقات أعماله وربما إلى حسابه الشخصي على موقع «تويتر».
والشيء اللطيف في الآليات والماكينات أنها تعمل على إصلاح الأشياء. ولكن الميكانيكا الاقتصادية كانت تسيء تحريك كثير من الأمور في الآونة الأخيرة. ويرجع هذا، كما يقول السيد ستريك، إلى «التغير الذي وقع في العالم والهياكل السببية العارضة التي تغيرت بتغيره».
يعمل السيد ستريك بأسلوب غالبا ما يربطه بكارل ماركس ولكن يمكن عزوه أيضاً إلى جورج فيلهلم فريدريش هيغل، أو ربما حتى ابن خلدون، المؤرخ العربي بشمال أفريقيا من القرن الرابع عشر الميلادي. ولا يقدم أسلوب العالم الألماني أية أدلة إصلاحية أو حتى تنبؤات واضحة، ولكنه قد يساعد في تفهم وإدراك ما الذي يجري من حولنا.
يكتب السيد ستريك فيقول إن الأعراض الثلاثة الرئيسية لأزمة الرأسمالية هي تباطؤ النمو الاقتصادي، وارتفاع المديونيات، وزيادة عدم المساواة في الدول الرأسمالية الكبرى. وهذه الاتجاهات ظلت مستمرة وملاحظة منذ عقد السبعينات من القرن الماضي، ولم تؤد الأزمة المالية الكبيرة لعام 2008 إلا إلى تسريع وتيرتها فحسب.
ولقد ركز المراقبون المحافظون كذلك على أول عرضين من هذه الأعراض، قائلين إن المشكلة تكمن بالأساس لدى الناخبين الذين يطالبون بالمنح والصدقات، والسياسيين الذي هم على استعداد دائم لمنحها. ولا يصدق السيد ستريك ذلك؛ حيث كتب يقول في كتابه «كيف ستنتهي الرأسمالية؟»: «إن الأزمة المالية لم يكن من المرجح لها أن تحدث بسبب الإفراط في إعادة التوزيع الديمقراطي وهي أطروحة يمكن النظر إليها من زاوية أن تنامي الدين الحكومي قد تزامن مع الانخفاض في المشاركة الانتخابية، ولا سيما عند الطرف الأدنى من سلم الدخل، وتماهت الأزمة المالية في إيقاع منفرد مع تقلص دور النقابات، واختفاء الإضرابات العمالية، وتخفيضات الرعاية الاجتماعية من جانب الدولة وانفجار حالة عدم المساواة في الدخل».
ويشير السيد ستريك، بدلا من ذلك، إلى التخفيضات الضريبية لأصحاب الدخول المرتفعة وأصحاب الشركات، فضلا عن زيادة «الحماية المؤسساتية لاقتصاديات السوق من التدخلات السياسية المزعجة»، باعتبارها الجاني الرئيسي في هذه الجريمة. فلقد أتيح المزيد من الحرية للأسواق لمتابعة المنطق الداخلي الخاص بها، ولقد أدى هذا المنطق إلى أزمة لا محيص عنها. ولا يمكن للأسواق أن تقدم السلع بنفس مقدار النمو والازدهار ما لم تفعل القوى السياسية الديمقراطية ما عليها لمراقبة الأسواق، ولكن في الاقتصاد العالمي من دون دولة عالمية، فإن القوى السياسية الديمقراطية تفتقر إلى الكثير من السلطات والصلاحيات.
على أقل تقدير، هذه هي قراءتي لحجج السيد ستريك. وهو لا يرى اقتراب نشوء الدولة العالمية أو الثورة البلشفية العالمية في الأفق، كما أنه يتوقع فترة طويلة ومفعمة بالفوضى بسبب الخروج البريطاني وانتخاب دونالد ترمب. ومن التساؤلات الكبرى ما إذا كانت تلك الأحداث تهدد فعلياً بالقضاء على الرأسمالية. ويكتب ستريك بنفسه فيقول إن النظام الرأسمالي الحديث واجه الكثير من الثورات والتحولات المتكررة عبر القرون الماضية، وأن النظريات الرأسمالية لم تكن سوى نظريات الأزمات المالية الكبرى.
ولا يستقر هذا الرأي عن ماركس وإنغلز فحسب، بل لعله يمتد أيضاً إلى ريكاردو، وميل، وسومبارت، وكينز، وهيلفردينغ، وبولاني، وشومبيتر، وكلهم قد توقعوا بطريقة أو بأخرى رؤية نهاية قريبة للرأسمالية خلال حياتهم.
ولقد أصيبوا جميعاً بخيبة الأمل في هذا التوقع. وليس ذلك ضماناً بأن يلقى السيد ستريك نفس المصير، بطبيعة الحال، ولكن يبدو أنها إشارة إلى الاضطرابات المشهودة في أيامنا هذه والتي يمكن أن تكون أكثر من مجرد إرهاصات التغيير التاريخية المنتظرة. وهناك أمر آخر أخبرني به السيد ستريك خلال زيارتي له، وهو من الأمور التي ربما قد نتفق عليها جميعاً: «إننا نقترب من فترة طويلة لن نعرف فيها على وجه اليقين ما الذي سوف يحدث».

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»