أبدى رئيس لجنة شؤون الاستخبارات بمجلس النواب، ديفين نيونز، غضبه العارم إزاء التسريبات التي طالت واشنطن، تماماً مثل شخصية الضابط في فيلم «كازابلانكا» الذي شعر «بصدمة كبيرة» لدى اكتشافه وجود عمليات مقامرة داخل ناد للقمار.
وطالب نيونز، عضو الحزب الجمهوري المنتمي لولاية كاليفورنيا، بفتح تحقيق حول التسريبات التي تناولت محادثات أجراها الرئيس دونالد ترمب مع قادة أجانب، وكذلك التسريبات المتعلقة بمستشار الأمن الوطني المستقيل، مايكل فلين. وأكد نيونز، خلال ظهور له في برنامج «فيس ذا نيشن» (واجه الأمة) على قناة «سي بي إس»، أن التسريبات غير المصرح بها تشكل خرقاً للقانون، وألقى باللوم عنها على العناصر المتبقية من عهد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما «القابعين ربما بمختلف الدوائر الحكومية».
بيد أنه في واقع الأمر ينبغي لنيونز وترمب والآخرين الذين يتحدثون بغضب عارم عن التسريبات، الإنصات لليون بانيتا، رئيس فريق العاملين في البيت الأبيض ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) ووزير الدفاع سابقاً، والذي قال في تصريحات لبرنامج «ميت ذا بريس» على قناة «إن بي سي»، الأحد إن «التسريبات مشكلة اشتكى منها جميع الرؤساء».
وربما كان بمقدوره إضافة أن الرؤساء عادة ما يجدون أنه ليس بأيديهم ما يمكن فعله حيال هذه التسريبات. على الجانب الآخر، فإن كثيراً من التسريبات تبدو قيمة حقاً، ذلك أنها تكشف النقاب عن سياسات رديئة أو فساد. هل تتذكرون «ووترغيت»؟ كما أن الرؤساء، بما في ذلك ترمب، من المحتمل أن يكونوا الفاعلين وراء التسريبات بقدر ما هو محتمل أن يكونوا ضحاياها.
إضافة إلى ذلك، فإن القليل فقط من التسريبات يشكل خرقاً للقانون، ومن بين الاستثناءات المحتملة على هذا الصعيد التسريبات التي تكشف أسراراً تتعلق بالأمن الوطني أو العوائد الضريبية الشخصية.
أما نيونز فعليه أن يدرك أنه عندما يهين الرئيس قيادات أجنبية خلال محادثات خاصة بينهما، فإن أنباء ذلك ستنتشر لا محالة. ويكاد يكون في حكم المؤكد أن بعض التسريبات الحالية صادرة عن فرق متناحرة داخل إدارة ترمب.
في المقابل، تسببت بعض التسريبات في أضرار. على سبيل المثال، أثناء الحرب العالمية الثانية، أشارت صحيفة «شيكاغو تريبيون» بوضوح في أعقاب «معركة ميدواي» إلى أن الولايات المتحدة نجحت في اختراق شفرة الأسطول الياباني. وضغط الرئيس فرانكلين دي روزفلت، الذي كان يكره هذه الصحيفة، على مسؤولين لتشكيل هيئة محلفين فيدرالية، لكنها قررت عدم توجيه اتهام إلى الصحيفة.
ومن بين أفضل المقالات التي تناولت مسألة التسريبات مؤخراً ما كتبه مالكولم غلادويل في إصدار «نيويوركر» بتاريخ 19 ديسمبر (كانون الأول) .
وفي خضم مقارنته بين اثنين من حوادث التسريبات الشهيرة؛ الأولى على يد دانييل إلسبيرغ لتقارير تخص البنتاغون عام 1971، والثانية على يد إدوارد سنودن حول إجراءات المراقبة الحكومية المستحدثة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، شرح غلادويل سر الأهمية المحورية للتسريبات عند ممارس الحكم على النحو التالي:
«ثمة علاقة تعاضدية قائمة بين الحكومة والصحافة، أي بين مصدر التسريبات والمستفيد منها. وربما تثير الحكومة جلبة حول مدى الأضرار التي تلحقها بها التسريبات، لكن تظل الحقيقة أنها تحتاج التسريبات بقدر ما تحتاج إليها الصحافة. إن شرعية الحكومة بحاجة إلى ضوء الشمس، بينما تحتاج ممارسة الحكم أحياناً إلى الظلام، وأمام هذا التناقض، تأتي التسريبات بمثابة سبيل غير رسمي للالتفاف على الأمر».
وسرعان ما يتعلم الرؤساء أن هذا الأمر يمكنهم استغلاله لمصلحتهم. ومن الممكن كذلك إساءة استخدامه. جدير بالذكر أنه عندما سرب معسكر أوباما تفاصيل عملية قتل أسامة بن لادن، كان أقل ما يوصف به هذا العمل الأنانية. وعندما سرب نائب الرئيس ديك تشيني وآخرون داخل إدارة الرئيس جورج دبليو بوش معلومات استخباراتية حول أسلحة الدمار الشامل لدى صدام حسين، لتبرير شن حرب ضد العراق، جاءت النتيجة كارثية بجميع المقاييس.
وأشار غلادويل إلى إلسبيرغ باعتباره أحد الذين أقدموا على تسريب وثائق بهدف نبيل، ذلك أنه تعمد انتقاء أسرار حكومية لكشفها، انطلاقاً من إخلاصه للمصلحة العامة وشعوره بالواجب الوطني.
يذكر أن إلسبيرغ قدم لصحيفة 43 مجلداً من دراسة حول حرب فيتنام ساعد في إعدادها، والتي كشفت النقاب عن تاريخ من الخداع على أيدي ثلاثة رؤساء. في البداية، سعى إلسبيرغ للوصول إلى مسؤولين في البيت الأبيض وأعضاء في مجلس الشيوخ لجعل الدراسة غنية. وعندما فشلت مساعيه، سرب الدراسة بنفسه لـ«نيويورك تايمز» بعدما حذف منها المجلدات الأربعة الأخيرة التي تتناول جهوداً دبلوماسية جارية للتفاوض حول السلام. من جانبها، سعت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون لكبح جماح التسريبات - وحاول نيكسون بادئ الأمر تسريب أجزاء تدين الرئيس جون إف كيندي - لكن المحكمة العليا تصدت له.
واستطرد غلادويل بأنه في المقابل نجد أن سنودن، أحد الموظفين من الرتب المتوسطة من المعنيين بالأمن الوطني، لم يكن سوى «هاكر» شعر بالغضب حيال إجراءات المراقبة الحكومية واسعة النطاق، والتي جرت دون موافقة قضائية (وقضت محكمة لاحقاً بأنها غير قانونية وأيدت حكمها محكمة أخرى)، إلا أنه على خلاف الحال مع إلسبيرغ، كشف سنودن عن المعلومات التي استولى عليها دونما تمييز، وهرب إلى روسيا منذ عام 2013.
في الواقع، بمقدورنا توجيه سهام النقد إلى سنودن، لكن مع الإقرار في الوقت ذاته بأهمية بعض المعلومات التي كشف عنها، خاصة أن التسريبات مفعمة بتناقضات هائلة. واللافت أن إدارة أوباما على وجه التحديد - وليست إدارة أي من ريغان أو بوش أو نيكسون - كانت الإدارة صاحبة الدعاوى القضائية الأكثر ضد المسربين، وإن كانت وتيرة هذه الدعاوى تراجعت بعض الشيء خلال سنواتها الأخيرة.
موجز القول، إن العلاقة بين الحكومة والصحافة تنطوي على الخصومة والتعاضد في الوقت ذاته. والمثير أنه عندما شجع ترمب على التسريبات التي نظمتها روسيا، الخريف الماضي، ضد رسائل البريد الإلكتروني الخاصة لعدد من أعضاء الحزب الديمقراطي، لم نسمع اعتراضاً من نيونز، رغم منصبه رئيساً للجنة شؤون الاستخبارات لمجلس النواب.
اليوم، وفي ظل وجود رئيس يزدري الشفافية ويحمل نزعات استبدادية داخله ولا يعبأ بالقيود المفروضة على السلطة، تكتسب التسريبات أهمية محورية.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
8:11 دقيقه
TT
متى تكون التسريبات هدفاً نبيلاً وواجباً وطنياً؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة