زاهي حواس
عالم آثار مصري وخبير متخصص بها، له اكتشافات أثرية كثيرة. شغل منصب وزير دولة لشؤون الآثار. متحصل على دبلوم في علم المصريات من جامعة القاهرة. نال درجة الماجستير في علم المصريات والآثار السورية الفلسطينية عام 1983، والدكتوراه في علم المصريات عام 1987. يكتب عموداً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» حول الآثار في المنطقة.
TT

مرمدة بني سلامة!

هناك كثير من مواقع الآثار المهمة غير المعروفة للناس في مصر أو خارجها! ولا أغالي إذا قلت إن هذه المواقع لا تقل أهمية عن مواقع أهرامات الجيزة وسقارة والأقصر بما فيها من وادي الملوك؛ بل قد تفوق أهمية بعضها الأهرامات نفسها. ومثال على ذلك موقع يعرف بين الأثريين باسم مرمدة بني سلامة، الذي يبعد عن الشمال الغربي للقاهرة بأقل من خمسين كيلومترًا؛ على الحافة الغربية للدلتا بين منطقة وردان والخطاطبة. ومرمدة بني سلامة هي واحدة من أقدم القرى النيوليتية - أي ترجع إلى العصر الحجري الحديث - وكشف به في بداية القرن الماضي عن المساكن التي أقيمت بالقرية على جانبي شارع مستقيم؛ واستخدم البوص في بناء المساكن وتم تدعيمه بالطين وكان المسكن بيضاوي الشكل، ويقع ثلثه أسفل مستوى أرضية الشارع لكي يكون مدعمًا كفاية؛ وكان النزول إلى المنزل عن طريق درج بسيط من درجة واحدة (سلّمة) أو درجتين من عظمة ساق فرس النهر! والغريب أن عظمة ساق فرس النهر كانت منتشرة الاستخدام كدرج سلم ربما لصلابتها ومقاومتها للزمن أو ربما كتميمة للحماية ضد هجوم الحيوانات المفترسة. وموقع مرمدة عزيز على قلبي وله الفضل في مسيرتي كعالِم آثار. ويعود الفضل في الكشف عن مرمدة بني سلامة إلى عالم الآثار الألماني هرمان يونكر عام 1928.
وتصل مساحة القرية لنحو ستة أفدنة ويعود تاريخ القرية إلى سبعة آلاف سنة، أي أنها أقدم قرية على وجه الأرض؛ وكان أهل مرمدة يشتغلون بالزراعة ويقومون بتخزين الحنطة والشعير في صوامع مشتركة على تبة عالية وكانت عمليات الدفن تتم في المساحات بين المساكن وليس في جبانات منفصلة عن القرية! أما الأطفال فكانوا يدفنون في أرضية المنزل نفسه! أو تحت عتبة المدخل. والغريب أن في بعض القرى في ريف وصعيد مصر لا يزال الناس يدفنون الأجنة التي لم تكتمل في الحمل أسفل عتبات المنازل! كان سكان مرمدة بني سلامة يلبسون ملابس من الكتان، والنساء تتحلى بعقود من المحار وخواتم من العظم وحلقان من العاج. والمؤكد من تخطيط القرية وصوامع الغلال أن مرمدة كانت تمثل قمة التقدم الإنساني في الإدارة والحياة في جماعة متعاونة تحت إمرة رئيس.
وعندما قررنا بعد مرور نصف قرن من الزمن على حفائر هرمان يونكر أن نبدأ الحفائر في أقدم قرية مصرية، قامت مصلحة الآثار باعتماد ميزانية خمسين ألف جنيه. وكنت في ذلك الوقت مفتش آثار شابًا أعمل بتفتيش آثار يقع ضمن نطاقه قرية مرمدة بني سلامة، وقد تقدمت بطلب عمل حفائر بالموقع بعد علمي بمحاولات بعض الأهالي الاعتداء على أراضي مرمدة الأثرية. والحفر في مواقع أثرية مثل مرمدة يحتاج إلى خبرات خاصة في الحفائر ومهارات الرفع المساحي وتحديد مربعات الحفر ودراسة طبقات التربة والتسجيل والرسم الأثري.
وكان مؤتمر المصريات منعقدًا في القاهرة؛ وانتقد علماء الآثار قيام شاب مصري (العبد لله) بحفر مرمدة بني سلامة بعد عالم المصريات يونكر! استغرقت الحفائر شهرين وكل ما تم عمله هو حفر مربعين فقط كل مربع مساحته خمسة أمتار × خمسة أمتار.
وكانت النتائج مبهرة لعلماء الآثار في العالم كله. أما المسؤولون عن مصلحة الآثار فقد قاموا بتحويلي إلى الشؤون القانونية للتحقيق معي لإهداري مبلغ خمسين ألف جنيه في حفر مربعين فقط؟! تتعرض مرمدة اليوم للضياع ولا بد من الحفاظ عليها لأنها أصل الحضارة المصرية القديمة وأهلها هم أصل الفراعنة أجدادنا العظام.