التخطيط السليم، وتضافر الجهود المختلفة الأدوار، ومتابعة النتائج، هي الأسس الثلاثة لنجاح الجهود الطبية في مكافحة الأمراض ومنع تفاقم انتشارها. وهذا ينطبق حتى في مواجهة الأمراض التي يبدو من الصعب معالجتها لكن في حقيقة الأمر ثمة الكثير يُمكن فعله وإنجازه لتخفيف أعبائها. ودعونا نأخذ أحد أنواع الأمراض التي تثير «الرعب» والخوف لدى كثيرين بسبب ترسخ الاعتقاد بأنها أمراض لا علاج لها، وهي الأمراض السرطانية. وضمن عدد الخامس من يناير (كانون الثاني) لمجلة «سي إيه: مجلة السرطان للأطباء» CA: A Cancer Journal for Clinicians، الصادرة عن جمعية السرطان الأميركية American Cancer Society، نشر تقرير دراسة متابعة معدلات الوفيات بالأمراض السرطانية خلال الخمس وعشرين سنة الماضية. وأفاد التقرير أن معدلات الوفيات بالأمراض السرطانية حاليًا في الولايات المتحدة انخفضت بمقدار 25 في المائة مقارنة بما كان عليه الحال في بداية تسعينات القرن الماضي. ومع هذا توقعت الإحصائيات تلك أن يتم تشخيص نحو 1.7 (واحد فاصلة سبعة) مليون إنسان أميركي بالسرطان خلال عام 2017، كما سيموت نحو 600 ألف شخص بسبب الإصابة بأحد الأمراض السرطانية.
وعلقت الدكتورة ريبيكا سيغيل، مديرة التخطيط الاستراتيجي لبحوث المراقبة والخدمات الصحية بجمعية السرطان الأميركية ورئيسة فريق إعداد التقرير، بالقول: «الانخفاض في معدلات الوفيات بالأمراض السرطانية ناتج عن الانخفاضات الكبيرة في أربعة أنواع من الإصابات السرطانية، هي سرطانات الرئة والقولون والثدي والبروستاتا، والتي تشكل نحو نصف الوفيات الناجمة عن الأمراض السرطانية كلها. وهذا التطور الإيجابي مرده انخفاض معدلات التدخين والتحسن في وسائل الكشف المبكّر عن الإصابات السرطانية وتطور طرق معالجة حالات الإصابات بالأنواع المختلفة من الإصابات السرطانية».
ولكن الدكتورة سيغيل أكدت أن ليس جميع مرضى الإصابات السرطانية استفادوا بشكل مماثل، ذلك أنه على الرغم من انخفاض خطورة معدلات إصابة الرجال بالأمراض السرطانية وعدم تغير ذلك لدى النساء، فإن الرجال لا يزالون أكثر عُرضة للإصابة بالأمراض السرطانية مقارنة بالنساء، وبنسبة أعلى تقارب 40 في المائة، كما لا يزالون أكثر عُرضة للوفاة بسبب الأمراض السرطانية مقارنة بالنساء، وبنسبة أعلى تقارب 20 في المائة. وأضافت أن الانخفاض في وفيات الرجال بسبب الأمراض السرطانية كان بسبب الانخفاض الكبير في معدلات الإصابة بثلاثة أنواع من السرطان، وهي سرطان الرئة والبروستاتا والقولون، وهي التي تشكل 40 في المائة من أنواع السرطان التي يتم تشخيصها بين الرجال. وبالمقابل، ما زالت معدلات الإصابة ثابتة في نوعين من السرطان الأكثر انتشارًا بين النساء، وهما سرطان الثدي وسرطان الرحم.
واعتمد التقرير على نتائج الإحصائيات الحديثة لجمعية السرطان الأميركية حول معدلات الإصابة والوفيات بالأمراض السرطانية والتي تم تجميعها من بيانات ثلاث جهات للرصد وهي: برنامج الولايات المتحدة الوطني لسجلات السرطان وسجلات السرطان المركزية لأميركا الشمالية ومركز الولايات المتحدة الوطني للإحصائيات الصحية. والرجوع إلى نتائج الإحصائيات الطبية الدقيقة في متابعة تأثيرات جهود الخدمات الصحية في مكافحة الأمراض والوقاية منها هو ما يُفيدنا بأن تلك الجهود تسير في الاتجاه الصحيح أم لا، ولذا علق الدكتور توماز بيير، رئيس كرسي أبحاث سرطان البروستاتا ومساعد مدير مركز نايت للسرطان بجامعة أوريغون للصحة والعلوم في بورتلاند، بالقول: «أخبار جيدة ونداء لمزيد من الاستمرار في بذل الجهود، ونحن على الطريق الصحيح في سبيل إطفاء كارثة السرطان ويبقى كثير مما يُمكن فعله لنصل إلى غايتنا».
وتوضح المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض واتقائها CDC أنها تقود الجهود في الولايات المتحدة لتخفيف أعباء الأمراض السرطانية، ومن خلال قسمها «مكافحة السرطان والوقاية منه» DCPC تعمل مع مختلف المنظمات الوطنية للسرطان ووكالات تقديم الرعاية الصحية في الولايات وغيرها من المجموعات الصحية المؤثرة لتطوير وتطبيق وتحسين استراتيجيات فاعلة للوقاية من الإصابات السرطانية ومكافحتها. وتذكر عددًا من مجالات عملها وجهودها في هذا الشأن، والتي في واحدة منها تقدم خدمات مراقبة الأمراض السرطانية عبر توفر الدعم لجمع البيانات عن الإصابات بالسرطان والوفيات ومتابعة عوامل خطورة الإصابة بالسرطان ونتائج استخدام وسائل الكشف عنه، وهي البيانات التي تساعد المتخصصين الصحيين في تحديد وتتبع اتجاهات الأمراض السرطانية وتعزيز أنشطة الوقاية والمكافحة للسرطان والتعرف على الأولويات في استخدام الموارد المتوفرة للتعامل مع الأمراض السرطانية.
والملاحظ أن الأمراض السرطانية اكتسبت «سمعة أسوأ» بالمقارنة مع أنواع أخرى من الأمراض كأمراض القلب أو الجهاز الهضمي أو أمراض الكلى وغيره، وثمة أسباب متعددة وراء نشوء تلك السمعة السيئة، لعل من أهمها الاعتقاد بأن السرطان في نهاية الأمر لا علاج له، أو أن السرطان يظهر فجأة دون مقدمات أو مسببات، أو أن معالجة السرطان لا تتم بشكل جيد إلاّ في مناطق ومراكز قليلة في العالم. والواقع أن أحد جوانب هذه المشكلة هو «ضيق أفق النظر» إلى السرطان حينما ننظر إليه كحالات مرضية فردية ونتصور أن تقييم قدرتنا كبشر في التعامل مع السرطان هي فقط تنحصر في مدى نجاح الجهد الطبي لمعالجة حالة المريض وإزالة السرطان عنه تمامًا وبأسرع وقت، دون أن ننظر إلى الأمر برمته على أنها جهود متعددة المجالات تثمر بالمحصلة في خفض الإصابات بأنواع شتى من الأمراض السرطانية، ورفع احتمالات البقاء على قيد الحياة فترة أطول، وتحسين نوعية الحياة وقدرات المريض للعيش بشكل أفضل، وتثمر متابعة دقيقة في رصد الحالات المُصابة ومتابعة نتائج معالجتها كحالات فردية، وتثمر توزيعًا أفضل لاستثمار الجهود والموارد المادية والبشرية في مختلف المستشفيات، وتثمر وعيًا أفضل بين عموم الناس حول الوقاية والمعالجة ومساعدة المرضى وغيره، وتثمر أيضًا إجراء البحوث والدراسات التي تنير لنا طريق إدارة التعامل مع الأمراض السرطانية ومعالجتها.
والعبارة الواقعية والمنطقية والمفيدة على كل الأصعدة هي أن «إدارة التعامل» بطريقة شاملة وواسعة مع الأمراض السرطانية عبر التخطيط السليم وتضافر الجهود ومتابعة النتائج هو ما سيصل بالمجتمعات المختلفة نحو تخفيف أعباء تلك الأمراض السرطانية.
* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]