علي سالم
كاتب ومسرحي مصري. تشمل أعماله 15 كتابا و27 مسرحية أغلبيتها روايات ومسرحيات كوميدية وهجائية، كما نشر تعليقات وآراء سياسية خاصةً بشأن السياسة المصرية والعلاقات بين العالم العربي وإسرائيل
TT

مطبخ الملائكة وليس طبيخهم

معلوماتي صفر في اللغة الفرنسية وريمون أيضا معلوماته صفر في اللغة العربية. ماذا أفعل بعد أن وعدت جورج بالانتهاء من كتابة المسرحية بعد 20 يوما فقط، الجملة الوحيدة باللغة العربية التي قالها لي ريمون هي اسم المسرحية وهو طبيخ الملائكة. الواقع أنه كان يقصد مطبخا وليس طبيخا، وبذلك يكون اسم المسرحية الذي كان يجب أن تظهر به هو مطبخ الملائكة.
ووصلت إلى حل ينقذ الوقت وينقذ الفرقة وينقذني؛ سنجلس معا أنا وريمون في بهو فندق «شبرد» القديم، وسيقوم بترجمتها جملة جملة إلى اللغة الإنجليزية التي كان يجيدها وأقوم أنا بترجمتها وكتابتها فوريا باللغة العربية، كنت في ذلك الوقت أقوم بدراسة الترجمة الفورية في القسم الحر بالجامعة الأميركية، ووجدت هذه المهمة مفيدة لي للغاية.
استغرق كل فصل في الترجمة يوما واحدا، كنت أكتب المسرحية بالعربية وفي الوقت نفسه كنت أكتب في الهوامش الحلول المصرية للمشاهد. لم أكن أترجم فقط.. كنت أمارس الكتابة أيضا. بالتأكيد كنت فتوة في ذلك الوقت لأنني انتهيت من تمصير المسرحية في أسبوعين فقط.
وبدأت التدريبات عليها من إخراج حسن عبد السلام - رحم الله الجميع - لا أستطيع أن أعبر هذه المرحلة بغير أن أتكلم عن الشاعر الغنائي الكبير حسين السيد، كان هو بالفعل الأب الروحي للثلاثي (جورج سيدهم وسمير غانم والضيف أحمد)، وكتب اسكتشات المسرحية ويخيل إلي أنه كان يعمل من أجلهم مجانا، كان ثريا ليس من الفن فقط بل من التجارة أيضا، الأمر المؤكد هو أنه كان يحبهم.
وقدم لي الضيف شابا جديدا سيلعب دورا في المسرحية، لم يكن ممثلا محترفا، كان زميلا للضيف في فرق الجامعة، واسمه أسامة عباس ويعمل رئيسا للتحقيقات في شركة تأمين. لعب أسامة دورا مهما في المسرحية ودورا مهما في حياتي.
حتى ذلك الوقت كانت قراءاتي منحصرة في كل ما هو فن، روايات، مسرحيات، كتابات نقدية، غير أنني لم أكن مهتما بقراءة التاريخ اللهم إلا الروايات التاريخية. غير أن أسامة كان عاشقا للتاريخ، هكذا بدأ يغريني بقراءة المؤرخ الأميركي الفذ ول ديورانت، الذي كتب تاريخ البشر بشكل جديد، كان يلتقط صورة لكل عصر بكل ما فيه من نشاط، هو لا يؤرخ للحكام والملوك والممالك، بل يؤرخ للبشر في كل عصر على حدة، بكل ما أنتجوا وأبدعوا في كل مجالات الحياة، أعارني أسامة الجزء الأول من الكتاب الذي نشر منه في ذلك الوقت نحو 30 جزءا، أي أن قراءته تتطلب أعواما.
هكذا بدأت أستعير جزءا بعد الآخر من مكتبة أسامة، أحببت الرجل لجنونه، يا لها من مهمة جنونية أن يأخذ شخص على عاتقه هو وزوجته مهمة إعادة كتابة تاريخ البشر، ولقد نجحا في ذلك ومن الغريب أنهما ماتا بعد أن انتهيا من كتابة الكتاب بفترة قليلة وكأن الموت يأبى الاقتراب من أشخاص معينين إلا بعد أن يتموا مهمتهم النبيلة. بالطبع كان يساعده في هذه المهمة عشرات الباحثين ولكن لا شك أن الفضل سيعود إليه وحده بصفته قائد الفريق. قرأت له بعد ذلك كتابين وهما «مباهج الفلسفة» والثاني هو «مختصر قصة الفلسفة» كما أحتفظ بنسخة قديمة بالإنجليزية للجزء الأول وجدتها في مكتبة تبيع الكتب القديمة في آن آربر بولاية ميتشيغان.
أنا أحب المجانين الذين يفكرون في إثراء حياة البشر ويبذلون في ذلك مجهودا أشبه بالمستحيل. ولكن هل يبتعد الإنسان عن الفن المسرحي عندما يقرأ التاريخ؟ لا أعتقد ذلك.. التاريخ عرض مسرحي، والبشر جميعا يلعبون أدوارا فيه. نعم الحياة عرض مسرحي لا ينزل عليه الستار.