عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

الطموح الواعي... ميزانية السعودية 2017

أعلنت المملكة العربية السعودية ميزانيتها الجديدة لعام 2017 في مجلس الوزراء، الأسبوع الماضي، وقد جاءت مختلفة هذا العام في كل شيء تقريبًا؛ من طريقة بنائها إلى أسلوب الإعلان عنها.
أما في طريقة بنائها، فقد شهدت السعودية إعادة هيكلة كبرى للعمل الحكومي عبر مجلسي السياسة والأمن والاقتصاد والتنمية، وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها بناء ميزانية الدولة عن طريق مجلس الاقتصاد والتنمية بشمولية جديدةٍ تنطلق من رؤية السعودية 2030، ومن برنامج التحول الوطني 2020، ومن البرامج المتعددة والكبرى الداعمة للرؤية، ويأتي ذلك خلافًا لما جرى عليه العمل عبر عقودٍ، وهو مؤشرٌ على التطوير المتسارع الذي تشهده البلاد.
التفاصيل المالية والاقتصادية سيشرحها ويفصلها المسؤولون والمختصون بها، ولكن من السهل للمتابع إدراك الجهود الكبرى التي تم بذلها في بناء ميزانية تنشد إصلاحاتٍ اقتصاديةٍ بالغة الأهمية، وتكون رافدًا مهمًا للتطوير الذي تنشده القيادة وينشده الشعب.
وقد جاء في كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان قوله: «وقد وجهنا مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بالعمل على إطلاق برنامج إصلاحات اقتصادية ومالية وهيكلية شاملة، وهذه الميزانية تمثل بداية برنامج عمل متكامل وشامل لبناء اقتصاد قوي قائم على أسس متينة تتعدد فيه مصادر الدخل، وتنمو من خلاله المدخرات، وتكثر فرص العمل، وتقوى الشراكة بين القطاعين العام والخاص، مع مواصلة تنفيذ المشاريع التنموية والخدمية، وتطوير الخدمات الحكومية المختلفة، ورفع كفاءة الإنفاق العام، ومراجعة منظومة الدعم الحكومي، مع التدرّج في التنفيذ لتحقيق الكفاءة في استخدام الموارد والحد من الهدر، مع مراعاة تقليل الآثار السلبية على المواطنين متوسطي ومحدودي الدخل، وتنافسية قطاع الأعمال».
إن كان التاريخ الحديث يشهد بشيء في هذا السياق، فإنه يشهد بأن الإصلاحات الاقتصادية الواسعة التي تشكل منعطفاتٍ تاريخية للدول والأمم والشعوب هي بالضرورة إصلاحاتٌ فيها شيء من التعب لصانع القرار الجريء وللمسؤولين والمؤسسات المعنية، وكذلك لعامة الشعب بجميع فئاته، وفيها بعض المرارة التي تشبه مرارة الدواء الذي يورث العافية والشفاء.
لأول مرةٍ تظهر الميزانية بهذا التخطيط الدقيق، وبهذا العرض المفصل الذي شارك فيه عدد من الوزارات والوزراء، ولأول مرةٍ يشاهد المواطنون عملاً فعليًا تتجلى فيه رؤية 2030 والبرامج المساندة لها وعلى رأسها «برنامج التحول الوطني»، خصوصًا في هذا السياق «برنامج تحقيق التوازن المالي» الذي يهدف لميزانية متوازنة 2020.
في أي عملٍ مستقبلي سواء كان نظريًا أم عمليًا مساحاتٌ يجب أن تفترض سيناريوهاتٍ متعددةً ومستوياتٍ مختلفةً لإحكام الإصابة وتجنب الأخطاء وآلياتٍ متباينةٍ للاستدراك والتعديل والتطوير، مع الحرص الدائم على إيجاد برامج تحدّ من أي أضرارٍ قد تلحق بالفئات الأقل حظًا في المجتمعات، وهو ما جرى احتسابه ببراعةٍ لا في ميزانية 2017 فحسب بل في مجمل الرؤية وبرامجها المتعددة والمتكاملة.
الاقتصاد عمود الدول، والنجاح فيه ينقل الدول والأمم والشعوب نقلاتٍ نوعيةٍ في سلم الحضارة، كما في انتشار الرخاء، وهو ما تتم ترجمته قوةً سياسيةً وعسكريةً وثقافيةً واجتماعيةً تمنح الدول والشعوب القدرة على التأثير بشكلٍ أوسع، وأكثر فاعلية ومرونة لا في التصدي للتحديات ومعالجة الأزمات، بل في فرض الأجندة المطلوبة في جميع الملفات وعلى الصعد كافة.
لم يكن الاعتماد على النفط عيبًا، ولكنه حين تحول لشبه إدمان أصبح كذلك، فقد أورث ذلك الإدمان اتكالاً لدى مؤسسات الدولة وميزانياتها، كما أورث تواكلاً في قيم العمل لدى المجتمع وأفراده، وكذلك فعلت سياسات الدعم غير الموجه ونحوها، والنقلات النوعية في التاريخ هي كالتي تشهدها السعودية اليوم تمنح قدرةً هائلةً على تجاوز الماضي ومواضعاته، والاتجاه للمستقبل وفرصه.
لحظات الإصلاحات الاقتصادية المهمة والفاعلة حول العالم كانت ترافقها على الدوام مزايدات لا تُعد ولا تُحصى، تتعدد في مصادرها ومرجعياتها، كما تتنوع في طرائقها وأساليبها، وتختلف في أهدافها وغاياتها.
السعودية ليست بدعًا من البلدان في ذلك، وهي ستواجه مزايداتٍ يمكن انتقاء ثلاثٍ منها؛ الأولى: المزايدات الآيديولوجية، التي تمثلها أحزاب ورموزٌ وتياراتٌ، لها أجندةٌ خاصة يجمعها أنها أجندة ليست وطنيةً بحالٍ، وهي خبيرةٌ كل الخبرة في صناعة التجييش والتحريض وصناعة السخط وصناعة الإحباط. وهي ستعمل بكامل طاقتها، لا بالأساليب القديمة التي تمكّنها من اختبار تنظيماتها الهرمية والسرية فحسب، بل ستفترع طرقًا وأساليب جديدة ومتطورة لتشويه أي إصلاحاتٍ وطنيةٍ مستحقةٍ أو للتخريب لمجرد التخريب.
الثانية: الخاضعون لسحر الجماهير والطامحون ليصبحوا رموزًا للطموحات الشعبوية الآنية، ويندرج ضمنهم النخب المنافقة للأتباع، والنجوم الجدد في الإعلام الجديد، والتافهون الباحثون عن قيمةٍ بالتكثر بأمثالهم لأهداف مختلفةٍ، فهذه الشريحة قابلةٌ للتقلّب في مواقفها عند أي تغيرٍ أو تأثرٍ في المزاج العام، فالمصلحة الشخصية مع أي ساخطٍ ذي انتشارٍ مقدَّمةٌ لديها على مصلحة الوطن ومستقبل أجياله.
الثالثة: أتباع النظريات الاشتراكية البالية من اليساريين الذين يريدون هدم كل شيء قائمٍ وناجحٍ وطموحٍ مستقبليًا لأجل أحلامٍ وأوهامٍ لم تتحقق قط، لا بل لقد فشلت على جميع المستويات النظرية والتطبيقية، وليس لديها أي نموذج ناجح يمكّنها من أن تشيد به أو تعلنه، ولكنها قادرةٌ على التشغيب.
لكل واحدةٍ من هذه الشرائح المزايدة أهداف خاصة، ولكنها جميعًا برسم الاستغلال الخارجي المعادي، وأعداء السعودية في المنطقة والعالم معروفون إنْ بشكلٍ مباشرٍ وإنْ بشكلٍ غير مباشرٍ، وأوضح الأعداء هي إيران، وهي ذات علاقةٍ بهذه الشرائح بشكلٍ أو بآخر، ويفعل مثلها من وافقها من قبل أو من بعد، ويمكن للمتابع التأمل في علاقة إيران بجماعة الإخوان المسلمين، وببعض الناشطين، وعلاقتها باليسار، وعلاقتها بالإدارة الأميركية الآفلة.
السعودية قويةٌ بتاريخها وإرثها، وقويةٌ بتعدد مواردها من الغاز إلى التعدين، إلى غيره من الصناعات التي يمكن تطويرها وتعزيزها، من الثقافة إلى السياحة إلى الترفيه، وقويةٌ بقوة تحالفاتها، خليجيًا وعربيًا وإسلاميًا ودوليًا، وقويةٌ بموقعها الجغرافي الذي يربط بين القارات الثلاث، وها هي تعلن عن التزاماتٍ جديدةٍ بالشفافية في ميزانيتها العامة 2017 والميزانيات التالية لها، وتتحدث بأريحية عن «العجز» وعن «الدين العام» بالتزامن مع الحديث عن الأرقام والإحصائيات والمقارنات بين عامٍ وآخر.
أخيرًا، كتب الأمير محمد بن سلمان في رؤية السعودية 2030: «نريد أن نعزّز اقتصادنا، وأن نحوّل قوانا الأساسية إلى أدوات تمكننا من تحقيق مستقبل متنوع القدرات».
[email protected]