رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الدولة الوطنية العربية وإمكانيات الإنقاذ

عقد منتدى تعزيز السلم مؤتمره الثالث في أبوظبي يومي 18 و19-12-2016، وكان موضوعه: مسألة الدولة والتفكير بها قديمًا وحديثًا لدى العرب والمسلمين، وكيف يمكن تجديد التجربة وتطويرها باتجاه السلم والتضامن الوطني والعربي في بلدان الاضطراب. وقد شارك في المؤتمر والموضوع عشرات الباحثين، ومئات المهتمين؛ إذ الواقع أنّ مشكلات التصدع في دول الاضطراب العربي، تسببت بمقتل أكثر من مليون بسوريا والعراق، فضلاً عن الهجرة، بحيث تجاوزت أعداد المهجَّرين في البلدين زُهاء الخمسة عشر مليونا. وإلى ذلك هناك مخاطر تغيير الحدود، والمحاور الانقسامية الداخلية.
وسط هذا الاضطراب في أربع أو خمس دول عربية، يشتعل النقاش في المنتديات بشأن التصدع الذي تعاني منه الدول الوطنية، من حيث الأسباب. كما يشتدُّ النقاش في كيفية إعادة بناء تلك الدول ونظامها، والنظام العربي الذي صارت جامعته منتدى لتبادُل الآراء والتوجهات، وشكوى المصابين، لا أكثر من ذلك. فحتى أعلى الأصوات استنكارًا أو استحسانًا ما عادت مألوفة بالجامعة العربية العتيدة، فضلاً عن أن يكون الهول النازل بالإنسان والعمران دافعًا للتصدي العالمي.
لقد ارتأت بحوثٌ في المؤتمر أنّ علل التصدع وتهدُّد الاستقرار تعود للمسائل التالية: الاستبداد، والأصوليات الدينية والإسلام السياسي، وتدخلات دول الجوار، والتدخل الدولي، ومشكلات الفقر، والعجز عن التغيير بالسلم.
وقد ارتأت الورقة التأطيرية التي قدمها الشيخ عبد الله بن بية رئيس منتدى تعزيز السلم، أنه من الضروري تحديد المفاهيم وتحريرها، ومن ضمن ذلك الدين والشريعة والولاء والبراء والدولة الإسلامية والدولة المدنية والوطنية. فقد حدثت انزياحاتٌ هائلة في كلّ هذه المفاهيم، بحيث انتشرت الأوهام بين الشبان المتدينين بشأنها، وأمكن للمجرمين المتمرسين سَوق آلاف الشبان إلى الموت بداعية منها. بيد أنّ هذه التحريفات ما حدثت بمعزلٍ عن الاستنزافات التي أحدثها الاستعمار، واستحدثتها العولمة، والأنظمة الخالدة وحلفاؤها. وعلى أي حال؛ فإنّ تكرار أقوال التقليديين من الفقهاء وممارساتهم بشأن الدولة، لا ينتج أثرًا سريعًا. لكنّ «الجهاديين» المزعومين، يدخلون على الناس من طريقة «التأصيل» المزعومة، فلا بُدَّ من مكافحتهم بهذا المنهج أيضًا. فعلماء التقليد يقولون جميعًا إنّ الدولة أو الإمامة ليست من التعبديات، بل هي من المصلحيات والتدبيريات. فالعقل والمصلحة والانتماء الوطني والديني توجب جميعًا أن تكون هناك سلطة تسوس شؤون الناس وتُديرُها. وقد أقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سلطة بالمدينة ووضع لها دستورًا (= صحيفة المدينة)؛ لكنها ما كانت معصومة ولا مقدَّسة. وسُمّيت السلطة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خلافة فأحسنت وأساءت وانتهت فترة الراشدين القصيرة بحربٍ أهلية دامية، ثم جاءت السلطة الأُموية لتعتبر سلطتها خلافة لله، كما ظهر على النقود المسكوكة في عهد عبد الملك بن مروان ومن بعده من الأُمويين والعباسيين.
إنّ تأصيل جهاديي الخلافة يبدأ من هنا ويمضي باتجاهٍ آخَر. فالسلطة ضرورية لتطبيق الدين أو الشريعة عندهم، وإذن لا بد من الاستيلاء على السلطة لتطبيق الشريعة. وهذه المقولة تعني أشياء كثيرة منحرفة. وذلك لأنّ مهمة الدولة إدارة الشأن العام وليس تطبيق الدين. ولأنّ تطبيق الشريعة يعني أنّ الدين غير مطبَّق، إلى أن يأتي المتطرفون ويفرضوه!
ما كانت في الإسلام دولة لاهوتية أو كهنوتية ولن تكون، بل قامت في العالمين العربي والإسلامي دولٌ وطنية حديثة كبيرة وصغيرة وستقوم. وكانت إبّان قيامها في حقبة ما بين الحربين ذات شعبية هائلة في أوساط سائر الفئات. وبسبب تفاقم المشكلات خلال الحرب الثانية وبعدها، وضياع فلسطين، وانقسام الهند، وسيطرة أنظمة عسكرية، اشتدّ في المقابل هذا الوعي الفصامي وتدعَّم بالأهوال الحاصلة على بلدانٍ عربية كثيرة، ومع الاختلاط بين الديني والمدني، في زمن العولمة، ازداد تقدم الإسلام السياسي. ويكون علينا أن نكافحه لكي لا يدخل الدين في بطن الدولة، ولكي لا تصير الدولة محلَّ نزاع من تيار الإسلام السياسي فتزداد تفككًا. إنه إلى جانب ترشيد العمل السياسي، يكون من الضروري بذل كل جهدٍ ديني وفكري واجتماعي لاستنقاذ الدولة الوطنية العربية، باعتبارها ضرورة وجود.
لقد أوضح الباحثون في مؤتمر منتدى تعزيز السلم حول الدولة الوطنية أنّ استقرار العالم يتعرض للاضطراب الشديد نتيجة العولمة، ونتيجة الافتقار إلى القيادة العالمية من خلال مجلس الأمن، والتدخلات الخارجية. ولذا فإنه بعيدًا عن أوهام «الدولة الإسلامية» و«الخلافة» لا بد من العمل من أجل الاستقرار والتنمية على مرحلة ثالثة في الدولة الوطنية، حيث ينخرط الجميع وبحرية في عمليات صنع المستقبل مع العالم؛ في تشاركية لا يُقصى فيها أحدٌ. وليس في هذا الأمل ما هو بعيدٌ أو مستغربٌ، لأنّ الدولة هي مصلحة الجميع. وهناك تجارب دولتية عربية بالغة النجاح، تستحق الاقتداء بها؛ بدلاً من التركيز كل الوقت على الفشل في تجارب الدول الوطنية. لا بُدَّ من الإقبال بالسلم والمبادرة والعمل المشترك على إعادة بناء الدولة العربية في زمن التصدع وزمن العولمة.
كيف نفعل ذلك؟ بالشراكة الملتزمة بين السياسيين والمثقفين، وتجديد الخطاب الديني لمكافحة التطرف، والعداء لدولة الكرامة والمستقبل، والعمل على تكوين إجماعات تتعلق بالاستقرار، وتجنب العنف السلطوي والاعتراضي، وتتعلق بالعدالة والتنمية، وتتعلق بوحدة التراب الوطني، والانتماء العربي، ورفض التدخلات الخارجية.
لا يصح ولا يجوز أن يكون الاختلاف في تشخيص أسباب التأزم في الدولة العربية، مبررًا للإعراض عن العمل من أجل البناء الجديد أو الانحياز إلى التدخلات الخارجية أو إلى التطرف بحجة البديل الإسلامي المزعوم لدولة العصر والمستقبل. ما عادت المسألة أنّ هناك خيارات متعددة، وأنّ علينا الاتفاق على أحدها. ليس هذا صحيحًا على الإطلاق. بل ليس هناك غير خيارٍ واحدٍ هو خيار الدولة الوطنية العربية المتجددة. هذا الخيار أو الفناء تحت وطأة التخثُّر الداخلي، والعمل للأجنبي، والخضوع لموجات التهجير والقتل من جانب الميليشيات الطائفية.
ولا يصح بالطبع اعتبار التوافق الروسي الإيراني التركي مخرجًا لإنقاذ الشعب العربي السوري، والدولة الوطنية في سوريا. كما لا يصح اعتبار التوافق الأميركي الإيراني الكردي مخرجًا لإعادة بناء الدولة الوطنية بالعراق؛ إذ أين حياة الناس ورأيهم في مصائر مجتمعاتهم ودولتهم. ويا للعرب!