رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

من طرابلس الشام إلى طرابلس الغرب

عندما كانت الاشتباكات تعود للاشتعال في طرابلس الشام بين محلة جبل محسن العلوية وأحياء المدينة الملاحقة والمجاورة ويسقط فيها المزيد من القتلى من أهل المدينة وليس من المسلحين الذين يشتبكون منذ سنوات بحسب إرادة النظام السوري وحلفائه من حزب الله - كان المسلحون «الإسلاميون» من ثوار طرابلس الغرب السابقين واللاحقين يحاولون فض اجتماع للمؤتمر الوطني (البرلمان) بالقوة، خشية أن يناقش المؤتمر اقتراحا بحل تجمعات المسلحين هؤلاء، وإنهاء صلاحياتهم الأمنية، والذين سبق لهم قبل أسبوعين أن احتجزوا رئيس الحكومة لمدة ست ساعات لإرغامه على الاستقالة!
إن الأوضاع الأمنية والسياسية سيئة جدا في ليبيا وسوريا والعراق واليمن ولبنان والسودان، والأسباب واحدة، وكذلك الظاهرة: ففي كل من هذه البلدان العربية تحاول قوى سياسية، وميليشيات مسلحة، وفي السلطة وخارجها، ومن البلاد ومن خارجها، الغلبة على الأرض، أو استمرار التغلب والسيطرة. والشعارات واحدة: الانتصار للإسلام أو الانتصار باسمه أو مصارعة أميركا وإسرائيل، نعم مصارعة أميركا وإسرائيل! أما كيف يكون إرهاب الناس وقتلهم عملا من أعمال الجهاد والممانعة والمقاومة، فهذا أمر لا يتردد في الجهر بمعقوليته وضرورته القائمون على عمليات القتل والتفجير والتخريب، ومن طرابلس الشام إلى طرابلس الغرب، وما وراء الشام والغرب. ولست أقصد بذلك فقط النظام الأسدي الذي تجاوز عدد ضحاياه المائة ألف، وعدد مهجريه بالداخل والخارج السبعة ملايين؛ بل ومسلحي حزب الله وحلفائه بلبنان وسوريا والعراق واليمن، ومسلحي «الإسلاميين» الجهاديين والإخوان في ليبيا ومصر وتونس واليمن. فعندما أشعل أعوان النظام السوري الاشتباكات بطرابلس الشام ردا على كشف قوات الأمن والقضاء اللبناني للذين قاموا بالتفجيرين أمام مسجدين من مساجد المدينة أثناء صلاة الجمعة قبل شهرين، كان رئيس نواب حزب الله بالبرلمان اللبناني يصرح بأن الذين يعترضون على استيلاء حزب الله ومسلحيه على الحكومة القائمة، والأخرى التي يراد تشكيلها إنما يريدون أن يفقدوا لبنان عناصر «قوته» التي حررت الأراضي اللبنانية من الإسرائيليين! وهو لا يستحي أن يقرر ذلك، رغم معرفته بأن مسلحي حزبه وعملاء النظام السوري مسؤولون عن كل أعمال القتل والاغتيال والاجتياح بالقوة في السنوات العشر الأخيرة ومن ضمنها اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري والشهداء الآخرين من النواب والمثقفين والصحافيين، ورجال الأمن والجيش، واحتلال مدينة بيروت، والاستيلاء على الحكومة اللبنانية، والذهاب لقتل السوريين المشاركين في الثورة على رئيس النظام الجمهوري الوراثي في دمشق الشام. وإذا كان هذا كله ظاهرا وثابتا في القضاء الدولي واللبناني، وعيون الناس وعقولهم وأسماعهم، فكيف يكون بوسع العقلاء من أهل البلاد الاستمرار في إعطاء «مشروعية» لحزب الله بالجلوس مع أعضائه على طاولة واحدة في حكومة واحدة المفروض فيها أن تناقش كيفية التخلص من السلاح المستولي على الدولة والمواطنين، والقاتل أو المهدد بالقتل لكل من يرفع صوته ضد ميليشيات الحزب في لبنان وسوريا وغير لبنان وسوريا؟! سيقول حزبيو حزب الله: لكننا لا نحتاج إلى مشروعيتكم! ونقول لهم: لقد شكلتم حكومة من قبل من دوننا وبمعاونة فيلتمان والأميركيين، وتابعتم «عملياتكم» في لبنان وسوريا، فلماذا هذا الحرص الآن على المشاركة التي تقولون إنها لا تقدم ولا تؤخر؟!
أما رئيس غرفة عمليات ثوار ليبيا العظام فقد ذهب إلى أن المؤتمر الوطني المنتخب الذي خضع خلال أقل من عام لعشرات عمليات الحصار الفعلي، والابتزاز المادي والأمني والسياسي، إنما يعمل ضد الإسلام، ولصالح الأميركان. أما رئيس الحكومة فذنبه أنه زار مصر، وأنه لا يريد الخضوع هو وحكومته للإخوان وأدواتهم «الجهادية» القاتلة.
هناك داء عياء منتشر في مجتمعاتنا ودولنا باسم الإسلام السني والشيعي. أما الإسلام الأصولي السني فيمتلئ جسده الضخم والهائل بالانشقاقات والتشققات والانسدادات الجهادية والفئوية أو الحزبية. والمشكلة معه ليس أنه يقول بالأمة المتسامية على الأوطان والمجتمعات. بل الحقيقة أنه يقول بما دون الدين الجامع، والوطن الجامع، والدولة الواحدة. وتخترقه العصبيات والمحليات والجهويات وقوى التدخل الأجنبي والإقليمي. فـ«القاعدة» التي تعمل في سوريا والعراق وليبيا واليمن ولا أدري أين وأين أيضا، قيادتها موجودة في إيران، وإلا فليقولوا لنا لماذا يقتلون معارضي الأسد والسنة قبل الآخرين، ثم كيف يصدق المجنون قبل العاقل أن الدولة الإسلامية يمكن أن تقوم بمدينة الرقة أو الحسكة أو عند معبر اليعربية؟! وليقل لنا الإخوان المصريون أصحاب النظرية العالمية، كيف سيديرون العالم الإسلامي والدولة المصرية، وهم منهمكون في منع الطلاب من الدخول إلى جامعاتهم ومدارسهم باسم الشرعية والشريعة؟! وبأي عمل بناء قاموا حين سيطروا في مصر وتونس وغير مصر وتونس؟!
أما مشكلتنا نحن العرب مع مقاومة حزب الله، ومع تقسيم المجتمعات وتعطيل الدول باسم الإسلام الشيعي - فهي أن الدولة القومية الإيرانية قبضت على رأس التشيع باسم ولاية الفقيه، وراحت تنشئ تنظيمات مسلحة وغير مسلحة في الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، فتقتل هنا وتغتال هناك وتقسم وتستولي هنالك. ومثل «المجاهدين» باسم السنة؛ فإنها تمارس أعمال الفتك والشرذمة والكراهية الطائفية، باسم حماية المزارات الشيعية المقدسة، أو باسم مقاتلة إسرائيل وأميركا. وآخر طرائفها المأساوية على أمتنا أنها إنما تقتل السوريين الآن حفاظا على نظام المقاومة ضد إسرائيل، الذي ما تزال أرضه في الجولان محتلة من الإسرائيليين منذ عام 1967! قال ظريف شاهد رجلا أعمى يعرض دواء للشفاء من العمى على جسر الرصافة ببغداد: لماذا لا تشفي عينيك أولا بدوائك؟! وأجاب الأعمى غير متردد: أنت لا تعرف شيئا، فقد أصبت بالعمى في أصفهان، وهذا الدواء لا ينفع إلا في بغداد! نعم أيها المقاومون، لماذا لم تساعدوا حليفكم المقاوم على تحرير الجولان، بدلا من «تحرير» سوريا وطرابلس الشام من سكانهما؟ وكيف سيزعج هذا التحرير القاتل إسرائيل وأميركا؟
لا خيار للعرب في المشرق والخليج إلا الصمود في وجه هذا الداء القاتل: الداء الآتي من إيران. والداء الآتي من القرامطة باسم السنة. والداء الآتي من التدخلات الروسية والأميركية والإسرائيلية. لقد عانينا في ظروف كثيرة تحديات هائلة. فقد شهد تاريخنا الحاكم السلجوقي لدمشق، ووزراء الفاطميين بمصر يدعون الصليبيين الذين كانوا يحتلون سواحل الشام لاحتلال دمشق والقاهرة لمساعدتهم ضد خصومهم الداخليين في عمليات الصراع على السلطة الوهمية. تماما مثلما استغاث الأسد بالإيرانيين والإسرائيليين والروس لمساعدته ضد شعبه. واستغاثت حماس عام 2007 بالإيرانيين والأسد وحزب الله لمساعدتها ضد خصومها في السلطة الفلسطينية، وضد جوارها المصري.
لا يصح الخطأ في التخلي عن الفهم الصحيح لديننا وعيشنا التاريخي والجامع. ولا ينبغي الخطأ في التنكر لانتمائنا العربي باسم التسنن والتشيع. فقد كان هذا الأمر واضحا حتى في عشرينات القرن العشرين ولرجل مثل عبد الحميد بن باديس في أقاصي الديار العربية بالجزائر عندما أنشد: شعب الجزائر مسلم // وإلى العروبة ينتسب.
ستبقى طرابلس الشام التي تقاتل الأسديين والشعوبيين منذ ثلاثين عاما وأكثر. وستبقى طرابلس الغرب التي صارعت الأميركيين والطليان قبل ولادة عاشر جد للقذافي: «والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون».