محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

أن تكون ناقدًا

بطبيعة الحال هناك أكثر من نوع من النقد وهناك أكثر من أسلوب في النوع الواحد. هناك التعليق والرأي والنقد التنظيري والكتابة الوصفية (هي الأكثر انتشارًا الآن) والنقد الانطباعي والنقد التحليلي، وذلك الذي يهضم معظم هذه الأشياء في فعل واحد.
لا يمكن أن تكون كل تلك الأساليب صحيحة على نحو متساو.
في السينما وفي الحياة بكاملها، هناك شيء صحيح ومتكامل واحد، ثم نسخ مختلفة تتدرج من شبه الصحيح إلى الخطأ.
ينتهج الناقد ما يراه نهجًا صحيحًا لمجرد أنه يلائم مقاسه هو فيقدم عليه. هو لا يستطيع أن يحلل إذا ما كان يفتقد إلى المعلومات والثقافات الأساسية في علم السينما، وإن حاول فإنه يسقط وقد يفك رقبته، لكنه سيستعير وسيدعي ويتكلف.
أما القارئ فهو على نوعين: نوع واع ونوع مكتف يعتقد أن الكتابة الوصفية، مثلاً، كتابة جميلة، وإذا ما قال له الكاتب ذاته أن ما يكتبه هو النقد وليس هناك نقد سواه صدّقه. لاحقًا قد يدرك، إذا ما استمر في القراءة ونوّع بين الكتاب، أن هذا النقد هو أفضل أو أسوأ من سواه.
ما يستوقف في الحركة النقدية السينمائية اليوم الميل صوب تنميق الكلام. الكثير من كتاب النقد وما يشبه النقد، يعتقدون أن استخدام الكلمات النافرة أو الغريبة هو رفع من شأن الكتابة وسبر غور ثقافي لا يُعلى عليه.
في هذا المجال نجد الكثيرين يعتنون أكثر مما يجب بانتخاب الكلمات أكثر من عمق الدلالات. بتنميق المفردات حتى تؤدي دورها في تصنيف الكاتب صاروخًا عابرًا للقارات، علمًا بأن كل ما يحتاجه المرء، في مسألة السياق اللغوي، هو حسن الكتابة وصحّتها، لأن المهم هو تقنيات الفيلم وليس تقنيات دخيلة على الكتابة حول الفيلم. إدخال المصطلحات والتعابير والمفردات الكبيرة فيبدو، في غالب الأحيان، نتوءًا في جدار أملس.
إذن، ما هي نواة النقد السينمائي الأمثل؟
في هذا الصدد هناك الكثير من النظريات أسوؤها القول إنه لا توجد قواعد للنقد. هذا كمن يبني منزلاً بلا أبواب أو كمن يعتقد أن كل الطيور أو الأشجار أو الآدميين هم نوع واحد. وأفضلها هو المنطلِق من الاعتراف بأن النقد من دون معرفة بالسينما ومفرداتها الداخلية لا يؤدي الغاية ذاتها. أن تكون ناقدًا هو أن تنصب نفسك حكمًا أو قاضيًا وأنت لا تستطيع أن تحكم أو تمارس مهنة القضاء من دون معرفة القوانين من الداخل.
في السينما على الناقد أن يعرف جيدًا في الإخراج وفي التصوير وفي المونتاج وفي التمثيل وفي الموسيقى وفي العلاقات المتشابكة بين كل هذه الجوانب، وفوقها التنوع الثقافي والمصدري والتاريخي للفيلم الذي ينقده.
ترى بعضنا يستعيض عن كل تلك الضروريات، لأنه لا يعرفها أو لا يعرف إلا نتفًا منها، بتنميق الكلام والاستعارة من الشعر والأدب والصياغة المنمّقة. أو بالهروب دومًا إلى ما يعرف حتى وإن لم يكن له علاقة بالفيلم الذي يكتب عنه. يدخل اعتباراته هو فإذا به يتحوّل إلى محلل لكتب نجيب محفوظ إذا ما تناول فيلما مقتبسًا من أفلامه. وإذا ما كان الفيلم سياسيًا ضخ رأيه السياسي بين كل كلمة وأخرى كما لو أن المادة التي يكتبها ستتقدّم به في هذا الاتجاه أو ذاك. أي تقدم من هذا النوع هو ابتعاد عن السينما وعن فن نقد أفلامها.