حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

إنها الفكرة أولا!

في العالم الاقتصادي الشديد الفعالية والشديد التغير تحولت الفكرة إلى عنصر نجاح أهم بكثير من المقومات الأخرى. فالفكرة هي أهم من المال، وأهم من البشر، وأهم من الموقع الجغرافي. وتناقل الفكرة الأهم هو خلاصة التفاعل بين الثقافات والشعوب والأمم. فالأمثلة أمامنا كثيرة ومتنوعة لأفكار تولد في مكان ما وبعدها تمول في بلد آخر ثم يتم تصميمها في بلد ثالث ثم يتم إنتاجها في بلد رابع، كل بلد وكل مجموعة في هذه البلاد تستفيد من هذه «الفكرة».
ماتت فكرة الاقتصاد «الواحد» الذي يستطيع القيام بكل شيء وحده، والدول التي نجحت في جلب العقول المهاجرة والكفاءات المميزة إليها هي التي استفادت بلا أدنى شك من التميز النوعي لشعوبها، وهو الذي يحصل اليوم في الاقتصادات الناجحة، مثل أميركا وأستراليا والبرازيل ونيوزيلندا وكندا وإنجلترا، وهي دول اعتمدت بشكل أساسي على سياسة «هجرة» مقننة جلبت رؤوس أموال مهمة إليها ميزتها جدا عن غيرها بشكل استثنائي، وتمكنت من الإبداع والتألق والتفرد الاقتصادي في مجالات مختلفة ومتنوعة.
واليوم هناك أمثلة مهمة جدا من الممكن التمعن فيها هي دول نمور شرق آسيا، التي تجد فيها جاليات صينية مهاجرة تمثل العمق الأهم في الاقتصاد الوطني عندها، وكذلك الأمر بالنسبة لهنود الشتات والأرمن أيضا، وإذا أخذنا أمثلة عربية معاصرة فإنه من الممكن التمعن في الحالة المصرية قبل ثورة أو انقلاب 1952 عندما كان هناك وجود مهم ومؤثر جدا للعديد من الجاليات فيها كاليهود والأرمن والشوام (من أهل لبنان وسوريا وفلسطين كما كان يطلق عليهم) واليونانيين والإيطاليين والفرنسيين، كلهم كانوا قامات مهمة جدا وأداروا بتميز وكفاءة واستثناء أهم أيقونات الاقتصاد المصري بشكل مبهر وفريد مكنهم من أن يدخلوا أهم الأسواق العالمية بشكل تنافسي غير عادي، حتى إن منطقة مشهورة في القاهرة معروفة بالأزبكية أساس تسميتها أن الرحالة التجار القادمين من قبل آسيا الوسطى وتحديدا من أوزبكستان كانوا يحطون رحالهم في القاهرة كجزء من خط الحرير التجاري القديم لعرض بعض بضائعهم ومنتجاتهم فيها، والكثير منهم استوطنوا واندمجوا في المجتمع ليكونوا كفاءات مميزة.
كل شيء يبدأ بالفكرة، واليوم من يعتقدون أن شركات غربية عملاقة ستهبط إلى بلادهم لإقامة مصانع سيارات كبرى توظف 25 ألف موظف هم حالمون وواهمون وجاهلون، لأن مصانع السيارات اليوم تحتاج إلى 250 موظفا فقط والباقي «روبوتات» وأجهزة تحكم آلية تدير كل دوائر وعجلات الإنتاج بأكملها. إنه عصر العلم والتغير الكامل، ومن لا يدرك ذلك فلقد فاته القطار الذي يسير بعناصر واضحة هي العلم والعمل والقبول العام. هناك دول انصهرت في العولمة وقبلت أن تكون محطات قبول لأمم الدنيا، فاختلطت بها وطورت نفسها، وهناك أمم اختارت العزلة والهوس بالنفس ونقاوتها فكانت كوريا الشمالية وكانت كوبا، جزر جهل منعزلة محرومة ومنبوذة.. بئس الاختيار هذا.
الدول التي سمحت بالمناخ الأفضل لكل أهلها وشعوبها هي التي بالتالي توفر المناخ الأمثل لخروج الأفكار المفيدة وولادتها وتطورها والإبداع الكامل لها ومنها، وهذا هو الفرق الأعظم، لأن الله سبحانه وتعالى قال «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون». العلم كامل لا يتجزأ، والعلم هنا يقتضي الاعتراف بأنه لا أحد لديه وكالة حصرية للتميز والأفكار، وأن الحكمة والعلم مطلوب السعي خلفهما ولو في الصين أو من الصين.