حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

«في ارتفاع الفستان الشارع في أمان»

بالفستان القصير والصدور المفتوحة نحارب ظاهرة التحرش الجنسي، هذا معنى حملة «فستان زمان والشارع كان أمان» التي نظمتها سيدات مصريات وابتدأن الحملة بمسيرة بالفساتين القصيرة في العاصمة المصرية القاهرة، الخميس الماضي، رفضا للعنف والتحرش الذي ارتفع مؤشره في مصر بنسب غير مسبوقة. وتعتمد نظرية المنظمين للحملة في الشارع المصري وفي التواصل الاجتماعي على التذكير بحقبة الستينات، حيث كانت بعض السيدات يلبسن الملابس القصيرة (الميني جوب والميكرو جوب) والمايوه على الشواطئ ولم يتعرضن حينها لتحرشات ومضايقات، وقال منظمو الحملة: «الحدث هو لكل من تحلم أن ترتدي فستانا موديل فترة الستينات وتمشي في شوارع آمنة بحريتها ومن دون أن تتعرض للتحرش». وقد ظهرت بعض الفتيات بالفساتين القصيرة في أحد شوارع القاهرة وسط صمت وذهول مجتمع محافظ تشكل فيه المحجبات النسبة العظمى، وغاية هذا الأسلوب، كما تقول الدكتورة ريهام عاطف، إحداث صدمة (shock) في المجتمع، بغية الالتفات لحل مشكلة التحرش الجنسي.
والمزعج أن المنظمين ربطوا بين ظاهرة التحرش الجنسي والحجاب الشائع في المجتمع المصري، وكأنهم يقولون إن هناك تناسبا عكسيا في الموضوع: فكلما ارتفع الفستان انخفضت نسبة التحرش، وكلما قلت نسبة المكشوف ارتفعت نسبة التحرش، حتى تبلغ ذروة التحرش مع النقاب!! والمحصلة النهائية للحملة أن محافظة السيدات على حشمة اللباس (الحجاب) تثير الغرائز.
وبسبب عدم منطقية الحملة ظن البعض أنها نوع من الظرافة ولفت الأنظار بالخروج عن المألوف بهذه الفقاعة الإعلامية، وإلا فليس من المعقول أن تظهر الفتاة بلباس قصير ثم تسلم من مضايقات المتحرشين وتتعرض للتحرش المحجبة من رأسها إلى أخمص قدميها، ولو كان لدى هذه الحملة جدية في محاربة ظاهرة التحرش لقامت بدراسات مسحية ميدانية جادة تكون عينتها الكبيرة من الشباب المتحرشين وغير المتحرشين ثم الوقوف فعلا على أسباب هذه الظاهرة المزعجة، وعمل دراسات أخرى تكون شريحتها المستهدفة الفتيات المحجبات والسافرات للوقوف فعلا على نسبة تعرض كل فئة للتحرش وهل ثمة علاقة بين طبيعة اللبس والتحرش؟
وعلى أية حال فهذا النمط من التفكير والذي اتبعته حملة «فستان زمان والشارع كان أمان» ليس بجديد، فقد حاول البعض معالجة معاكسات الشباب للبنات في السعودية والقضاء على مضايقتهن بالمطالبة بالاختلاط في التعليم وفي الوظائف، حتى «يتعود» الشاب منذ صغره على وجود البنت في حياته حتى تصبح أمرا اعتياديا، بل حتى العالم الغربي حاول محاربة انتشار المخدرات بتوفيرها وتقنينها حيث بدأتها هولندا ثم دول أوروبية أخرى والآن بعض الولايات الأميركية، والرقعة تتسع. وحاولت دول أخرى محاربة الدعارة بتقنينها لتكون تحت رعاية رسمية، تمنح لها رخص وتجبى منها ضرائب وتنضبط بالمعايير الصحية. وبقي السؤال الكبير: هل التجاوب مع المحظور أيا كان، دينيا أو عاما، ومماشاته وتقنينه سيساهم في القضاء على الظاهرة أو في أقل الأحوال تقليلها وإضعافها؟
الحقائق على الأرض لا تدعم صدقية هذه النظريات؛ فلا هولندا تقلصت فيها نسبة المدمنين، بل على العكس صارت قبلة للمدمنين من الداخل الهولندي ومن جيرانها الأوروبيين، «يحششون» في الهواء الطلق دون حسيب ولا رقيب ولا مساءلات أمنية، وازدهرت فيها تجارة المخدرات، ولا معدل التحرشات في العالم الغربي انخفض وهو المنفتح لدرجة العري التام في شواطئ بعض الدول وليس مجرد بضع سنتيمترات فوق الركبة كما تطالب به حملة «فستان زمان والشارع كان أمان»، فالربط بين ارتفاع الفستان وارتفاع الأمان كان مخادعا بل ومصادما لرغبة ومعتقد الأغلبية الساحقة في المجتمع المصري المحافظ، ولم يبن على دراسات ميدانية جادة.