خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من رواد الشعر الرومانتيكي

كثيرًا ما نرى الشعراء بأجسام نحيلة ذابلة وصحة سيئة. هذه هي حالتهم الغالبة. وأعتقد أن لذلك ما يؤيده عندما نتذكر رائد الشعر الحديث بدر شاكر السياب. ولهذه النظرة جذورها في الحركة الرومانتيكية عالميًا. والغريب أن شعراء هذه الحركة وفنانيها كانوا على الغالب يعانون فعلاً من صحة سيئة ومات أكثرهم في سن مبكرة. برسي شلي عاش ثلاثين سنة فقط، وجون كيتس عاش ستة وعشرين عامًا، واللورد بايرن عاش ستة وثلاثين عامًا، وهارتلي كولرج عاش ثلاثة وخمسين عامًا. ويظهر أنهم كانوا جميعًا يعانون من نفسية مكتئبة وحساسية مفرطة.
يروي تشارلز آرمتيج براون هذه الحكاية عن صديقه كيتس، فيقول:
جاءني كيتس يومًا في الساعة الحادية عشرة ليلاً. ودخل البيت في حالة أشبه بسكر شديد. لم أره على مثل ذلك قط من قبل، وكنت أعتبر ذلك مستحيلاً بالنسبة له. شعرت بالقلق فسألته: ماذا بك؟ هل تشكو من حمى؟ قال: «نعم، نعم! قضيت معظم النهار خارج البيت في هذا الطقس الشديد البرودة. أخذني البرد ولكنني أشعر بتحسن الآن». طلبت منه أن يذهب فورًا للفراش. استجاب لطلبي باعتدال وعلى الفور. وهذا شأنه مع كل أصدقائه. أسعفته بما لدي من دواء. دخلت غرفة نومه وأودعته لفراشه. قبل أن يضع رأسه على الوسادة ويغطي نفسه، أخذ يسعل وقال: «هذا الدم من فمي». رأيته يفحص قطرة من الدم سقطت على اللحاف. قال: «هات الشمعة يا عزيزي براون، ودعني أفحص هذا الدم». نظر إليه بإمعان ثم عاينني بوجه هادئ.
لم يعد بإمكاني أن أنسى ذلك الموقف. قال: «أنا أعرف لون هذا الدم. إنه دم من الشرايين. لا يمكنني أن أخطأ في ذلك. هذه القطرة من الدم هي صك موتي. لا بد أن أموت قريبًا». وكان كيتس قد درس الطب.
كانت قطرة من التدرن الرئوي، الذي كان يحصد الشباب بالألوف. وكان العلاج الوحيد في إنجلترا للسل الرئوي السفر إلى المناطق المشمسة الجافة. ولما كان كيتس مغرمًا بالفن والأدب، فقد اختار إيطاليا للعلاج. سكن غرفة مطلة على درجات السلم الإسباني، وراح يقضي الليلة تلو الليلة يستمع إلى أصوات تدفق الماء في المجرى القريب، ومن النافورة المجاورة المؤدية له. أوحى ذلك له بأن يتذكر كلمات من مسرحيته الشعرية الخالدة «بومونت وفلاتشر»:
كل أفعالك المجيدة التي أنجزتها
ستكتب على صفحة من الماء!
ظل كيتس يكرر كلمات هذا البيت من شعره. التقى بعد أيام بصديقه سيفرن، وقبل موته بأسبوع أو أسبوعين وهو في سن السادسة والعشرين فقط، فأوصاه بألا يكتبوا أي شيء على شاهد قبره أو أي مكان آخر سوى هذه الكلمات:
«هنا يرقد إنسان كتب اسمه بالماء».
فعلوا ذلك.. ولكن اسمه لم يكتب بالماء، وإنما ملأ ألوف الكتب والدواوين في سائر لغات العالم.