طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

الساحر والدرس الذي لن يتعلمه أحد

هل تبقى في الأرشيف عبر «الميديا» وثائق أخرى غير أفلام ومسلسلات محمود عبد العزيز؟ لن تجد سوى أعماله الفنية، وربما لقاءات محدودة، بل ونادرة جدًا هنا أو هناك، إلا أنها في كل الأحوال لن تنتقل من العام إلى الخاص. محمود الذي أطلقوا عليه من فرط موهبته «الساحر» كان حريصًا طوال مشواره على أن تظل حياته الخاصة داخل سياج لا يستطيع أحد اقتحامه. أعلم جيدًا بحكم صداقتي لمحمود، أكثر من ربع قرن، عن ملايين الدولارات التي كانت ترصد له من أجل أن يوافق على البوح أمام الكاميرا. قانون الندرة يفرض نفسه على الجميع؛ كلما صار وجود النجم شحيحًا إعلاميًا، ارتفع مؤشر ثمنه طبقًا لنظرية العرض والطلب. محمود كانت لديه القدرة على أن يقول لا لعمل فني لا يجد فيه طموحه، وأن يقول في الوقت نفسه لا لمن يريد أن يدفع مقابل أن يدلي بأسراره الشخصية.
محمود عاش تاريخًا فنيًا يربو على 45 عامًا، ولو حكى فقط شيئًا، ولو يسيرًا، لاستطاع أن يقدم أكثر من 100 حلقة.
كان محمود ينتقل في السنوات العشر الأخيرة من تكريم إلى آخر، وهذا ما يتيح له - لو أراد - أن يلتقط أنفاسه، ويروي الكثير.
أتذكر في مهرجان «دبي»، في مثل هذه الأيام قبل أربع سنوات، أنه حصل على جائزة «إنجاز العمر». كنت هناك أنا وزوجته الإعلامية بوسي شلبي، وأرادت أن تحصل على سبق من زوجها، وشاركتها الحوار معه، وبالطبع كان لقاء فنيًا، طلبت منه أن يلعب بطولة عدد من أفلام الجيل الجديد من المخرجين لأنهم يقدمون سينما مختلفة. وبالفعل، كان لديه مشروع فيلم «أوضتين وصالة» المأخوذ عن أقصوصة للكاتب إبراهيم أصلان، ومن إخراج شريف البنداري، ولا أدري ما الذي حدث بعد ذلك، فلم يتم إنجازه، إذ إنه كان سيشهد عودة محمود للسينما بعد غياب دام 7 سنوات، حيث كانت آخر إطلالة له في فيلم «إبراهيم الأبيض»، ورغم أنه قد تم حذف مشاهد كثيرة بعد تصويرها، مما أغضبه وقتها، إلا أنه بهذا الدور (عبد الملك زرزور) أضفى ألقًا خاصًا للفيلم، وحصد بعدها عدة جوائز، ولكن ظلت السينما المصرية عاجزة عن أن تنهل الكثير من تلك الموهبة المترامية الأطراف.
خسرت السينما العربية في الحقيقة الكثير بغياب محمود، حتى لو كان له حضوره مرة كل عامين في مسلسل رمضاني، وآخرها «رأس الغول»، ولكن هذا بالقطع لا ينفي فداحة خسارتنا السينمائية.
أتذكر أن المركز الكاثوليكي المصري أراد أن يمنحه جائزة تقديرية قبل خمس سنوات، وبالطبع حياة محمود لا يمكن أن يحتويها لقاء واحد.
رأينا كيف أن قسوة الزمن دفعت عددًا من النجوم إلى أن يعرضوا حياتهم ومشوارهم للبيع، وشاركوا في برامج لمجرد الوجود، مثل تحية كاريوكا وصباح ومريم فخر الدين، ولكن محمود كان معتزًا بكرامته، ولم يخضعه الزمن للاحتياج المادي ولا الأدبي، فلقد كان قادرًا على الاستغناء. كنت أتمنى بالطبع أن يروي تفاصيل الحياة الفنية، فهو شاهد إثبات على كثير منها، ولكن القدر كان أسرع.
ويبقى أن محمود ضرب للجميع نموذجًا نادرًا، وهو أن الفنان وحياته الشخصية ليست معروضة للبيع لمن يدفع أكثر، فهل يتعلم نجومنا الدرس من «الساحر»؟!