خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

عملاق منذ طفولته

الحديث عن عملاق من عمالقة التاريخ، كالجنرال ديغول، في إطار نكتتين أو ثلاث فيه إهانة لمعشر العمالقة والتاريخ والفكاهة، وهكذا أصبح رجوعي للحديث عنه أمرًا لازمًا. وفي هذه الأيام التي تعاني منها فرنسا أستطيع أن أتصور كل فرنسي يصرخ في قلبه ويقول: عد إلينا يا ديغول.
كيف كان عملاقًا منذ طفولته؟ روى أحد زملائه أن الجنرال ذكر له أنه في طفولته دعا إخوته للعب بقطع من الدمى الخشبية. ثم جعل لعبته المقترحة عن الحرب. أخذ شقيقه زافييه دور إيطاليا وأخذ بيير دور ألمانيا. أما هو فأخذ دور جنرال يقود فرنسا.
ومنذ طفولته شغلته الوطنية في محبة فرنسا والتعلق بها. واعتبر نفسه تجسيمًا لهذه الوطنية. سعى عبر حياته السياسية إلى تأليف حزب جديد باسم «الاتحاد من أجل الجمهورية الجديدة»، وفي تلك الأيام تساءل زملاؤه في القيادة عن الاتجاه الذي سيأخذه الحزب الجديد. وفي فرنسا السياسة دائمًا مرتبطة بالاتجاه؛ هل سيميل الحزب إلى اليسار أو اليمين أو الوسط. سألوه في ذلك، فقال: أنتم تطلقون على الحزب مقدمًا اسم ديغول. ومنه نأخذ الجواب. فديغول لا يميل إلى اليسار أو اليمين. إنه يسعى إلى الفوق.
ويظهر أن هذا الاعتزاز بشخصه الذي كان يمثل عنده الاعتزاز بفرنسا، أبعده عن الزعامة فقضى سنوات طويلة في متاهة وانفراد. وعندما أجريت أول انتخابات بعد الحرب العالمية الثانية، ألح عليه أصحابه أن يرشح نفسه في الانتخابات النيابية، فرد عليهم قائلا: «أنا أجلس في الجمعية الوطنية؟ ويكون علي أن أطلب الرخصة من رئيس الجمعية إدوار هريو أن يأذن لي بالكلام؟».
وبعد توليه رئاسة الجمهورية، استقبل ممثلي النقابات العمالية. بدأ أحدهم الحديث فقال: «يا حضرة الرئيس، لقد أوضحنا أكثر من مرة موقفنا لأسلافك...»، فقاطعه ديغول حالاً: «هناك خطأ فيما تقول!... فديغول ليس له أسلاف!».
وكثيرا ما طابق ديغول نفسه بين شخصيته وشخصية بلاده فرنسا، واعتبر عظمته امتدادًا لعظمتها. ففي أيام شيخوخته سأله أحد الدبلوماسيين الأجانب عن أحوال فرنسا وكيف هي الآن. فأجابه: «ليست على ما يرام. فإنني أتقدم في السن!».
ويظهر أن زوجته قد شاركته في مشاعره هذه، وربما الأصح تشربت بها بحكم مصاحبتها له. كانا جالسين في الصالون يستمعان للراديو عندما انتهى البث وعزفوا نشيد المارسليز ختامًا للبث، فقالت له بصوت حالم: «اسمع يا حبيبي شارل... أغنيتنا!».
طالما ذكرني ديغول في عنعناته هذه واعتداده بنفسه بخصمه اللدود الجنرال مونتغمري في شعوره بجبروته وعظمة شخصيته، فلا عجب إن كان الاثنان في نزاع واختلاف مستمر ساهم في كره ديغول للإنجليز وشكوكه فيهم. وهو ما يذكرني بالمثل الشعبي العراقي: «لا يمكن لديكين أن يعيشا على نفس المزبلة!».