يقترب الثلاثاء بعد أن بلغنا ذروة القبح. ويردد أصدقائي: «لقد أوشك الأمر على الانتهاء. أخيرا سنفرغ من هذا» - يا لها من فكرة رائعة، ويا له من خيال ساذج.
وللأسف ما من سبيل لنمحو من ذاكرتنا ما عايشناه ورأيناه على مدار الشهور الـ18 الماضية، ولإعادة حجب ما تكشف أمامنا جميعًا. وليس بإمكان يوم الانتخابات إصلاح شيء أو التعويض عنه - ليس هذه المرة تحديدًا. وبغض النظر عمن يعلن فوزه نهاية الأمر، سيبقى عشرات الملايين من الأميركيين على قناعة حقيقية بأن النتيجة ليست صادقة بسبب تدخل قوى خارجية. وسواء كان الفائز دونالد ترامب أو هيلاري كلينتون، ستبقى في صفوف الأميركيين انقسامات أعمق مما كان عليه الحال خلال الفترة السابقة للانتخابات، وثقة أقل بأهم مؤسسات الدولة.
إن الفائز في الانتخابات سيخطو نحو البيت الأبيض تحيطه ليس هالة من الأمل، وإنما طوفان من مشاعر الازدراء والرفض. ولا أدري كيف سيتمكن الرئيس الجديد، أيًا كان، من المضي قدمًا والاضطلاع بمهام منصبه في ظل هذا المناخ - بل كيف سيكون بمقدور أميركا ذاتها المضي نحو الأمام؟
بعد كتابتي هذه الجملة الأخيرة، توقفت عن الكتابة قليلاً، ريثما أتناول رشفة من قدح قهوة بجانبي، ونما إلى مسامعي حديث دائر على طاولة مجاورة في ردهة فندق «هامبتون إن». وسمعت سيدة أنيقة تبدو في الستين من عمرها تشكو من التغطية الصحافية للانتخابات. واتهمت الصحف برسم صورة ناقصة للانتخابات، مما يجعل غالبية الناخبين على غير دراية كاملة بالحقائق. وأشارت إلى أنها اطلعت عبر صفحة أحد أقاربها على موقع «فيسبوك» على قائمة على صلة بآل كلينتون «ماتوا في ظروف مريبة». وأضافت في حديثها إلى الجالسين بجوارها على الطاولة: «يبدو الأمر سخيفًا، لأنه لا يمكن أن نتخيل حدوث مثل هذه الأمور، لكن ليس بإمكاننا رفضها تمامًا في الوقت ذاته، خاصة وأن ثمة أدلة كثيرة قائمة».
يذكر أن الصحافي كارل هولس نشر موضوعًا نهاية الأسبوع الماضي في صحيفة «نيويورك تايمز» حول تنامي اهتمام أعضاء مجلس الشيوخ من الجمهوريين بمحاولة منع كلينتون حال وصولها إلى مقعد الرئاسة من تعيين أي قضاة جدد بالمحكمة العليا. وهنا يظهر التساؤل: ماذا عن إرادة الناخبين؟ وماذا عن احترام القرار الذي اتخذوه يوم الانتخاب؟
في الواقع، مثل هؤلاء السياسيين لا يفكرون في الأمر من هذا المنظور الخطير، وإنما يفكرون من زاوية صغيرة ومحدودة تركز على قواعد ناخبيهم والرغبة في تلقيهم دعوات للظهور ببرامج حوارية وزيادة أعداد متابعيهم عبر «تويتر».
وهناك بالفعل كثير من الأقاويل حول تصاعد روائح مريبة من داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)، والذي بدا فجأة مثل باقي أرجاء أميركا: ملوث بالتحيزات الحزبية ومشاعر الكراهية، الأمر الذي انعكس على التسريبات المحمومة التي تخرج عنه. ويتوق بعض عملائه للسعي وراء «مؤسسة كلينتون» وسبر أغوارها، بينما يرفض رؤساؤهم، الأمر الذي يثير فيضًا من الاتهامات المتبادلة. وبالتأكيد لن تتوقف هذه الاتهامات بعد الثلاثاء، وإنما على العكس من المتوقع أن تتفاقم.
قبل التسريبات الطائشة التي كشفها «إف بي آي» بقيادة جيمس كومي بأقل من أسبوع، كان من الواضح أنه حال خسارة ترامب في الانتخابات، ستتعالى صرخات أنصاره الأشد تحمسًا بأن الانتخابات «مزورة». اليوم، يبدو أن الأمر ذاته سيفعله أنصار كلينتون حال هزيمتها.
إن السمة الكبرى المهيمنة على هذه الانتخابات تتمثل في إثارتها شعورًا بالصدمة. لقد تمثلت النافذة التي أتاحت أمام ترامب فرصة المرور بادئ الأمر في شعور الكثير من الأميركيين بأن واشنطن و«وول ستريت» ووسائل الإعلام أصابها الفساد على أيدي نخب أنانية على نحو أصبح من المتعذر إصلاحه. والآن، بعد أكثر من عام، فإن عدد الأميركيين الذين سقطوا في بئر هذه الشكوك ارتفع بالتأكيد.
حقيقة الأمر أن هذا يعد بمثابة نتيجة طبيعية لما عايناه على مدار تلك الفترة، مثل المعلومات التي تكشفت عن الآليات الداخلية في اللجنة الوطنية بالحزب الديمقراطي، وقدرة أصحاب النفوذ أمثال ترامب على خداع دائرة الإيرادات الداخلية، والنصب المرتبط بأعماله الخيرية المزعومة، والتناقض بين تصريحات كلينتون العلنية وأحاديثها الخاصة، والشره المحموم الذي أصاب زوجها خلال فترة ما بعد الرئاسة والتفاعلات المشبوهة بين صالات التحرير والمكاتب المسؤولة عن الحملات الانتخابية. إن الوجه الذي كشفته هذه الانتخابات لأميركا ليس بالمشرف ولا الأخلاقي، واتضح من هذه الانتخابات كذلك أن أميركا مكان يموج بالكراهية - الأمر الذي أوضحه ترامب بما لا يدع مجالاً للشك.
وجاءت تصريحاته التحريضية لتعطي الضوء الأخضر لشخصيات أخرى رديئة والتي رغم وجودها منذ قبل ظهوره، فإنها لم تشعر قط بهذا القدر من الجرأة، مثل المعادين للسامية الذين تحرشوا بصحافيين يهود عبر «تويتر»، والقوميين البيض الذين وجهوا تهديدات لأبناء الأقليات والرجال الكارهين للنساء الذين هاجموا كلينتون بألفاظ يتعذر ذكرها.
يذكر أنه خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، حضر رجل مباراة كرة قدم في جامعة ويسكونسن مرتديًا لباسًا تنكريًا بمناسبة «عيد الهالووين» ظهر بصورة باراك أوباما مع وجود حبل حول رقبته. وعلى ما يبدو، فإن مثل هذه التصرفات المنحطة أخلاقيًا تزايدت وتيرتها منذ ظهور ترامب على الساحة بخطابه العنصري ضد الأقليات.
إضافة لذلك، يبدي ترامب ازدراءً واضحًا إزاء القواعد المتحضرة وحكم القانون، مع إقراره للعنف ضد المتظاهرين، وأعرب عن إعجابه بالحاكم الروسي المستبد، وتعهد بشن إجراءات قاسية ضد الصحف ووعد بالزج بكلينتون في السجن.
ومع ذلك، فإنني في الواقع لا أشعر بالفزع حيال إمكانية فوزه، لأنني مدرك تمامًا أن الأميركيين لم يسقطوا إلى هذه الدرجة، لكن ما يثير فزعي حقًا هو حجم الضياع الذي نعانيه.
إلا أنه فيما يتعلق بانتخابات 2016، أعجز عن تحديد قضية بعينها - داخلية أو خارجية - يمكن أن ينطبق عليها هذا التوصيف، وعلى مدار حياتي لم أعاين انتخابات أبدت مثل هذا القدر الضئيل من الاهتمام بالسياسات المطروحة، وأولت في المقابل هذا القدر الهائل من الاهتمام بالجوانب الشخصية.
ربما كان هذا أمرًا محتومًا بالنظر إلى وجود مرشحين غير محبوبين على الصعيد العام بهذه الدرجة التاريخية مثل كلينتون وترامب - لكن السؤال الآن: أين تتركنا هذه الانتخابات؟ في الحقيقة، يبدو القادم أصعب، ذلك أن هذه الانتخابات لم تسفر عن تفاقم الفجوة بين الجمهوريين والديمقراطيين فحسب، وإنما أججت الانقسامات داخل كلا المعسكرين أيضًا.
*خدمة: «نيويورك تايمز»