د. الشيباني أبو همود
TT

الغرب وعقدة صندوق الاقتراع

مما لا شك فيه أن الديمقراطية هي إنتاج بشري لا يقل أهمية عن كثير من الاختراعات العلمية التي غيرت وجه الكون، إلى درجة أن الرئيس الأميركي الأسبق أبراهام لينكولن وصفها يوما بأنها أمل البشرية الأخير The last best hope of earth. ومما لا شك فيه أيضا أن الديمقراطية تمثل الظاهرة السياسية الأبرز في القرن العشرين. ففي عام 1900 لم يكن عدد الدول الديمقراطية يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ولكن لم ينته هذا القرن حتى غطت الديمقراطية بأشكالها المختلفة أكثر من ثلثي دول العالم.
الإشكالية هي أن هذا النجاح الباهر للديمقراطية كنوع من أنواع الحكم قد أدى إلى اعتقاد غربي بأن الديمقراطية هي العصا السحرية التي تملك وحدها حل جميع مشاكل العالم. فقد جرى اعتمادها كشرط مسبق لتحقيق سلام عالمي دائم وفقا لما يعرف في الفقه الأنجلو – سكسوني بنظرية السلام الديمقراطي التي تعود جذورها إلى الفيلسوف (كانت) في مقالته الشهيرة «السلام الدائم» والتي اشترط فيها لتحقيق سلام دائم أن تكون دساتير كل الدول جمهورية وأن يقام اتحاد للدول الديمقراطية، ثم جاء فقهاء العلوم السياسية الأميركيون ليبينوا في نهاية القرن المنصرم أنه منذ نشأة الديمقراطيات الغربية قبل قرنين من الزمان لم يسبق أن وقعت أي حرب بين دولتين ديمقراطيتين، حتى أنهم جادلوا بأنه في العديد من المرات كانت بعض الدول الديمقراطية على وشك الاقتتال ضد بعضها، ولكن الآلية الديمقراطية فعلت فعلها ومنعت وقوع الحروب.
كما جرى ربط الديمقراطية بالتنمية وذلك بالرجوع إلى كتابات آدم سميث والتي تشير إلى أن فقر وغنى الدول يرجع إلى سياسات الأنظمة الحاكمة ولا علاقة له بالطبيعة أو بأي ظروف موضوعية أخرى، وبالتالي ووفقا لآراء أمارتاي صن، فإنه إذا ما أرادت دولة ما الخروج من حالة الفقر وتحقيق التنمية فإن كل ما عليها هو تبني نظام حكم ديمقراطي.
وأخيرا جرى ربط الديمقراطية باحترام حقوق الإنسان، وذلك بالتأكيد على أنه لا يمكن أن تحترم حقوق الإنسان في بلد ما، ما لم يتمتع هذا البلد بنظام حكم ديمقراطي، انطلاقا من أن الحق السياسي هو أول حقوق الإنسان.
هذه المعادلة رباعية الأركان (ديمقراطية سلام، تنمية وحقوق إنسان) أصبحت في تسعينات القرن الماضي عنوانا للخطاب السياسي العالمي وتبنتها الأمم المتحدة في العديد من قراراتها ووثائقها ونصّ عليها صراحة إعلان فيينا حول حقوق الإنسان الصادر عام 1993، واستخدمها العالم الغربي المنتشي بنصره في الحرب الباردة كمسلّمة لا يجوز المجادلة فيها.
بالطبع، يمكن أن يقال الكثير في حق هذه النظريات التي تصطدم مع الوقائع والحقائق. فكثير من الزعماء الذين أدخلوا البشرية في حروب إقليمية وحتى كونية، كهتلر مثلا، قد وصلوا للحكم عبر صناديق الاقتراع ولم تمنعهم الآلية الديمقراطية من إشعال الحروب ضد دول بعضها ديمقراطية، ثم إن ما حققته الصين من تنمية بانتشالها لمئات الملايين من تحت خط الفقر ينسف من الأساس فكرة اشتراط الديمقراطية لتحقيق التنمية، بل إن بعض المتابعين يرون أن الآلية الديمقراطية هي ما يمنع الهند من محاكاة الإنجاز الصيني رغم تشابه ظروف البلدين. وأخيرا، فإن العديد من الدراسات الحديثة أشارت إلى أن الربط بين الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هو ربط ظاهري، وأنه بحسب ما بينه فريد زكريا في كتابه الشهير «مستقبل الحرية»، فإن الحريات في أوروبا وجدت قبل الديمقراطية وأن العالم يشهد الآن تقدما للديمقراطية وتراجعا للحرية.
المعضلة هي أن الغرب مدعوما بنخبة عربية معولمة يسوق لفكرة أن مشاكل العالم العربي لا يمكن حلها إلا عبر صناديق الاقتراع، بما في ذلك ما يتعلق ببناء أو إعادة بناء الدولة في حالة بلدان الربيع العربي، هذا على الرغم من أن الوقائع على الأرض في هذه البلدان تشير إلى أن اللجوء المبكر إلى صناديق الاقتراع، هو الذي عقّد المشهد في هذه الدول وأدى إلى تأخر إن لم نقل مقتل الربيع العربي في مهده.
في الحقيقة، أنه إن تم التسليم بأن الديمقراطية هي الأسلوب الأنجع لإدارة الدول على اعتبار أنها تقدم الإجابة الأكثر منطقية وواقعية للسؤال الأزلي المتعلق بمن له الحق في أن يحكم، بأنه مَن تختاره غالبية الناس عبر صناديق الاقتراع، فإنه لا يمكن أن تكون الديمقراطية الأسلوب الأمثل لبناء الدول، لبداهة أن الديمقراطية تقوم على حكم الأغلبية في حين أن بناء الدول يحتاج إلى توافق الجميع.
لقد أظهرت تجربة بلدان الربيع العربي (تونس ومصر وليبيا) أن ما أفرزته صناديق الاقتراع لا يمثل في الحقيقة غالبية الشارع في هذه البلدان، وبالتالي رفض هذا الشارع مخرجات هذه الصناديق، وأصبحنا أمام ما سمي «شرعية الشارع في مواجهة شرعية الصناديق». هذا الواقع هو ما دفع بهذه الدول للبحث عن مخارج بعيدة بشكل أو بآخر عن قواعد اللعبة الديمقراطية، فجرى الحسم عسكريا في مصر وجرى التوافق التونسي خارج قبة البرلمان وبضغط من مؤسسات موجودة قبل الثورة كاتحاد الشغل ومؤسسة الجيش، وفي الحالتين اجبر الفائز في الانتخابات على أن يترجل لأن فوزه أتى في الزمان الخطأ وربما في المكان الخطأ.
الغرب حبيس عقدة صناديق الاقتراع يرفض الاعتراف بهذا الواقع، ويصر على الدفع باتجاه البدء بالنتيجة بدلا من الأخذ بالأسباب. فبدلا من مساعدة هذه البلدان على خلق حكومات قوية تعيد الاستقرار وتحقق التنمية وتضمن احترام حقوق الإنسان وتسهر لاحقا على إجراء انتخابات ذات مصداقية، نجده يضغط منذ بداية الثورات العربية على السلطات الانتقالية لإجراء انتخابات وتسليم السلطة لأشخاص منتخبين، من دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لهذه البلدان، ومتجاهلا للحقيقة التاريخية التي تقول إن العالم الغربي نفسه قد تقدم وتطور اقتصاديا قبل أن يصبح ديمقراطيا. إن هذه العقدة تدفع بالعالم الغربي في كثير من الأحيان إلى القبول بمسرحيات هزلية سيئة الإخراج حوّلت العديد من الانقلابيين إلى رؤساء شرعيين يطرح لهم البساط الأحمر لمجرد قيامهم بإجراء انتخابات مهما كانت مصداقيتها!
لقد أثبتت تجربة بلدان الربيع العربي أن صندوق الانتخاب ليس مؤهلا لإخراج كفاءات قادرة على بناء الدول، ناهيك عن قدرته أصلا على تمثيل الجميع وإشراكهم في عملية البناء، ولذلك فإن الدول التي أجّلت عملية اللجوء إلى الصندوق في هذه المرحلة (اليمن) قد جنّبت نفسها الدخول في الكثير من المتاهات الموجودة في بقية البلدان الثائرة، وبالتالي فعلى المجتمع الدولي وخصوصا الدول الغربية الكبرى إعادة النظر في سياساته تجاه هذه البلدان واعتماد مقاربة أكثر واقعية تتماشى مع الظروف الاجتماعية والتاريخية لهذه البلدان، التي لم تقتنع شعوبها بمخرجات الصندوق، ونخشى أن يمتد عدم قناعتها هذا إلى فكرة الصندوق نفسه، مما سيعيد هذه الشعوب إلى المربع الأول.
الديمقراطية ليست نموذجا ينسخ ويلصق على بعض الدول، وإنما هي هدف تسعى الشعوب لتحقيقه، وذلك بتهيئة المناخ المناسب له، بعيدا عن الشعارات الرنّانة والخطابات الفضفاضة التي حوّلت الربيع العربي إلى ما يشبه القفز في الهواء.
* سفير ليبيا لدى فرنسا