ركزت في مقالي الذي تنشره «بلومبرغ ريفيو» الأسبوع الماضي على الرياح العاتية التي تواجه النظام المصرفي الأوروبي والتداعيات الأوسع نطاقًا لسقوط «دويتش بانك»، بما في ذلك تراجع سعر أسهمه بأكثر من النصف.
الآن، دعونا نلقي نظرة أدق على العوامل المرتبطة بما جرى مع «دويتش بانك» على وجه التحديد، بما في ذلك الأمور التي قد تحدث، والأخرى التي من المحتمل ألا تحدث. ودعونا نبدأ بالسيناريو المخيف - رغم أنه غير منطقي من وجهة نظري - المتعلق بإمكانية تعرض «دويتش بانك» إلى ما يعرف باسم «لحظة ليمان» - أي للمصير ذاته الذي انتهت إليه مؤسسة «ليمان براذرز».
تشير عبارة «لحظة ليمان» ضمنيًا إلى التداعيات المروعة التي ترتبت على الأزمة المالية عام 2008، وتعني حدوث «توقف مفاجئ» في الاقتصاد العالمي - بمعنى وقوع انهيار على نحو متزامن في التجارة والاستثمارات والاستهلاك. وكان السبب المباشر وراء الأزمة ضياع الثقة داخل النظام المالي مع تنامي القلق لدى المؤسسات حيال مخاطر الدخول في تعاملات مع المؤسسات المناظرة. وعليه، تعطلت سبل النقل والتحويل داخل النظام المصرفي، وجفت الاعتمادات وواجه حتى المقترضون الجديرون بالثقة صعوبة في توفير تمويلات تجارية بسيطة.
وتعد هذه الأحداث بمثابة المكافئ الاقتصادي لتعرض الإنسان لأزمة قلبية. وحال عدم الإسراع إلى علاجها، تفقد الكثير من أعضاء الجسم الأخرى قدرتها على العمل بصورة طبيعية، وتنتشر موجة إخفاقات بمختلف أرجاء النظام.
من ناحية أخرى، فإنه لأسباب مؤسساتية وهيكلية، من غير المحتمل أن يتحول «دويتش بانك» إلى «ليمان براذرز» لعام 2016.
ورغم وجود علامات استفهام بالفعل حول الميزانية العمومية للمصرف، بما في ذلك الحسابات المعقدة للأصول المنتمية لتصنيف «المستوى 3»، تبقى مصادر تمويل «دويتش بانك» أكثر تنوعًا بكثير وميزانيته العمومية أكثر نشاطًا بكثير عما كان عليه الحال مع «ليمان برذرز». أيضًا، على خلاف الحال مع هذا الأخير، يتمتع «دويتش بانك» بالقدرة على الحصول على تمويل طارئ من قبل مصرف مركزي، في هذه الحالة سيكون المصرف المركزي الأوروبي.
علاوة على ذلك، يتمتع «دويتش بانك» بأدوات داخلية لخلق رؤوس أموال (بما في ذلك التصرف في الأصول، بل وحقوق إصدار الأسهم)، رغم أنه كلما زاد الإقدام على استغلال هذه الأدوات، تراجعت جاذبيتها بالنسبة لمسؤولي الإدارة وحاملي الأسهم القائمين. وبالنظر إلى احتياطيات المصرف القانونية المتراكمة، فإن الضغوط على كاهله ستتراجع حدتها إذا ما نجح في التوصل إلى تسوية مع وزارة العدل الأميركية تقضي بسداده أقل بكثير عن الغرامة الأصلية البالغة 14 مليار دولار، وأشرت إلى هذا سابقا.
كما أن ثمة اختلافًا كبيرًا بين البيئتين، ذلك أن «دويتش بانك» ليس جزءًا من عاصفة متنامية تشق طريقها عبر النظام المالي العالمي. ومع أن بعض المصارف الأوروبية لا تزال هشة، فإن أخرى حول العالم نجحت في تقوية الدعامات الرأسمالية التي تعتمد عليها، مع اتباعها توجهات أكثر حصافة حيال إدارة السيولة، بجانب تحقيقها تقدمًا كبيرًا على صعيد تنظيف سجلات التزاماتها. وينطبق هذا الأمر على وجه التحديد على المصارف الأميركية.
بيد أنه حتى ولو كان «دويتش بانك» لا يواجه مخاطرة التعرض لـ«لحظة ليمان»، فإن هذا لا يعني أن مشكلاته لا يمكن أن تترك تأثيرات تنظيمية. في الواقع، هناك على الأقل أربعة عوامل يجب وضعها في الاعتبار: 1. توجه هذه الأزمة صفعة جديدة إلى السمعة الهشة بالفعل للنظام المصرفي. ومن الطبيعي أن تؤجج هذه الأزمة سياسات الغضب، وتحث بعض السياسيين على إصدار تصريحات بإمكانها تقويض الثقة في عملية الوساطة المالية برمتها.
2. من خلال تسليط الضوء على الثغرات المتبقية داخل الهيكل التنظيمي والإشرافي الرامي لضمان سلامة وصحة النظام المالي، تسلط أزمة «دويتش بانك» الأنظار على المصارف المركزية والجهات التنظيمية، من جديد. ويؤدي هذا بدوره إلى تعريض هذه المؤسسات لقدر أكبر من التدخل السياسي في وقت هناك بالفعل الكثير من التساؤلات وغضب متنام حيال استخدام المصرف المركزي الأوروبي معدلات فائدة سالبة لسياساته وميزانيته المرتبطة بشراء أصول ضخمة.
3. تجدد المخاوف بخصوص احتمالات أن تخلق المصارف الأوروبية صعوبات جديدة أمام إمكانات النمو الهزيلة بالفعل بالمنطقة. ومن المتوقع أن تبدي المؤسسات المالية الأوروبية حذرًا أكبر قبل الإقدام على تقديم قروض، خاصة فيما يتعلق بإقراض مؤسسات صغيرة ومتوسطة. ويكشف التاريخ أن مثل هذا التحول لا يمكن للمصارف المركزية والحكومات تعويضه بسهولة.
4. نظرًا للترابط الكامن بين العمليات المصرفية، فإن مخاطرة انتقال العدوى إلى أسواق الأسهم العادية والسندات أكبر عنها في غالبية القطاعات الأخرى. وبجانب نشر الأوراق المالية المختلطة، مثل السندات الطارئة القابلة للتحول التي يجري التعامل معها بادئ الأمر كأدوات تضخيم داخلية، فإن الصعوبات التي يعانيها «دويتش بانك» تنقل حالة من القلق والاضطراب إلى الهياكل الرأسمالية لمصارف أخرى، الأمر الذي قد يوسع دائرة المؤسسات الجاذبة للمشاركين في البيع على المكشوف. ويزيد هذا الأمر بدوره من احتمالية زعزعة استقرار السوق على نطاق واسع.
المؤكد أن فوائد تحقيق استقرار على صعيد «دويتش بانك» تتجاوز مجرد مؤسسة واحدة يجري إجبارها على إعادة تعريف نموذجها للأعمال بسبب تحديات داخلية وخارجية. ولحسن الحظ، لا تزال هناك أدوات متاحة لاستعادة الاستقرار. وفي الوقت الذي تبدو «لحظة ليمان» غير محتملة، فإن الوقت ينفد أمام أوروبا وقطاعها المصرفي لاحتواء وتقليص مخاطرة وقوع أضرار وتداعيات غير مقصودة.
*بالاتفاق مع «بلومبرغ»