مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

جاك الموت يا ضاحك على الناس

علق في إحدى عربات (التلفريك) بالهدا بالطائف على ارتفاع شاهق، رئيس نادٍ أدبي بالطائف وابنه وستة من الأساتذة الكنديين التابعين لجامعة (نياغرا) الكندية، وبعد فترة طويلة تم إنقاذهم، غير أن عمال النظافة سارعوا بتنظيف العربة من البلل الذي أصابها.
وقد لفت نظري ذلك الخبر، الذي وقع في نفسي وقعًا خاصًا يختلف عن أي إنسان آخر، وذلك لما عايشته من احتجاز قسري سابق، جعلني أكره كل ما يمت للاحتجاز القسري بأية صلة، بما فيها السجون في أنحاء العالم - رغم أن السجون شر لا بد منه - لأنه لولاها لعاث المجرمون ومروجو المخدرات في الأرض فسادًا.
عمومًا الاحتجاز القسري لأي إنسان هو عذاب ما بعده عذاب حتى لو كان في جنة على الأرض، فما بالكم باحتجاز في كابينة مصفحة مغلقة، كأنها (صندوق تجوري).
ولقد احتجزت في حياتي مرتين، إحداهما احتجاز طوعي تم في غرفة صغيرة في منزلي استمر عدة أيام، لأنني أردت أن أجرّب إحساس أي سجين يقبع في زنزانة انفرادية، وفي نفس الوقت اعتبرتها مجرد (بروفة) لما قد يحصل - لا سمح الله - لو أنني قتلت أحدًا عن سابق عمد وترصد.
أما الثانية فقد حصلت عندما ذهبت للمحكمة القديمة الكبرى في الرياض لأقدم شهادتي في إحدى القضايا، وركبت المصعد المتهالك، وانحشرنا فيه وعددنا يناهز العشرة أشخاص، وتوقف بنا بين الدور الثالث والرابع، كان الوقت صيفًا وظهرًا، والمروحة معطلة، والتليفون مقطع الأسلاك، وعرق الجميع يتقاطر، والأنفاس تكاد تختنق، وما راعني إلاّ شيخ معنا يلبس المشلح عندما رفع عقيرته يحدثنا عن الموت، وكيف أنه سوف يدركنا حتى لو كنا في بروج مشيدة، مما اضطرني لأن أسكته قائلاً: أرجوك يا شيخ اسكت نحن لسنا في برج نحن في (أسانسير).
وما راعني أكثر غير أصوات من كانوا يخاطبوننا في الخارج ويشجعوننا ثم يذهبون دون نتيجة.
وسبب روعتي أو فجيعتي أنني تذكرت عندما كنت قبل سنوات في القاهرة أسكن في شقة مع أحد الأصدقاء، وقررنا أن نذهب للسهر في شارع الهرم، ووجدنا المصعد متعطلاً فنزلنا بالدرج فمررنا أثناء نزولنا بالمصعد وهو متعلق بأحد الأدوار وفيه أربعة أشخاص، وطلبوا منا مساعدتهم، فوعدناهم خيرًا، وذهبنا إلى غرفة الحارس ولم نجده، ولكي لا تفوتنا السهرة ذهبنا ولم نرجع إلاّ وجه الصبح، وفوجئنا بأن الأربعة ما زالوا محتجزين حيث إن الحارس كان في إجازة، وأخذت أضحك لا شعوريًا، وذهبت إلى فراشي ونمت قرير العين.
تذكرت هذا الموقف وأنا في مصعد المحكمة فانهارت قواي وجلست على الأرض، وأنا أردد بيني وبين نفسي: جاك الموت يا ضاحك على الناس.