خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من ظرفاء السياسة العربية.. سعد زغلول يلطف الجو

لا عجب أن تلد مصر، أم الفكاهة، زعيمًا يقودها بظرفه وحلاوة معشره. ويظهر أنه شعر بذلك فحرص على تدوين كل شيء في يومياته، وحتى ما اتصل بها من إدمانه على لعب القمار. هذا على الأقل ما سمعتُه من زميلنا عباس صاح، رحمه الله، أثناء عمله في هذه الصحيفة. قال: كان يذهب كل يوم ليلاً إلى نادي محمد علي ليشفي غليله مما أدمن عليه. استوقفه يومًا البواب، وكان شابًا نوبيًا، وبما تميز به أهلها من الصراحة والجرأة، استوقفه ليخاطبه: «مش عيب عليك، وأنت زعيم الأمة، تأتي هنا كل ليلة وتنغمس بالقمار؟!».
ولكن يظهر أن صدور مثل هذا التأنيب من شاب شغّال بسيط أثّر فيه. كتب في يومياته يقول إنه صُعِق بما سمع. فعقد العزم على الامتناع عن الذهاب لذلك المكان وأي مكان تدور فيه نوبات القمار. أدرك حقيقة التهمة، وتمكَّن من التخلص من هذه العادة. طالما قارنوا سعد زغلول برئيس الحكومة البريطانية آنئذٍ، لويد جورج، في ظرافته وبراعة لسانه. بيد أن الزعيم المصري كان أصدق مع نفسه من الزعيم الويلزي. فسعد زغلول استطاع أن يقمع في نفسه هذه النزعة، بينما استمر لويد جورج في عاداته.
كان سعد يستخدم الفكاهة والدعابة وسيلة للرقة والسماحة. تضايق عندما كان وزيرًا للمعارف من مساعده الذي اعتاد، مثل كثير منا، على الصياح والصراخ في التليفون، في مخاطبة مكتب الوزارة بالإسكندرية. نادى سكرتيرته وقال لها: «كلمي الأستاذ المساعد. ما فيش داعي يصرخ للإسكندرية. عندنا الآن تليفون».
تضايق من أحد أعوانه في تصرفاته المزعجة والمحرجة، ولكنه لم يجرؤ على استبعاده لرقته في التعامل مع الآخرين. اكتفى بأن وصفه لزملائه بقوله: «سعادة البيه مثل المخاط في الأنف. تشمئز منه إذا أخرجته، وتتقزز منه إذا أبقيته»!
هذا نموذج بسيط من براعته وبلاغته في الكلام. درسنا نماذج من خطبه وعلقت بي كلمته، عندما قال: «إن في الناس ناسًا إذا رأوا ضاربًا يضرب ومضروبًا يبكي قالوا للمضروب: لا تبكِ، قبل أن يقولوا للضارب: لا تضرب».
درة من درر البلاغة السياسية علقت في أذهان الكثيرين. وعلى غرار ذلك كان وصفه للمفاوضات التي كان عدلي يكن يجريها مع الإنجليز في لندن في عهد الملك جورج الخامس. كان عدلي يكن من الطيعين والطائعين للإنجليز. وصف سعد زغلول ذلك، فقال: «المفاوضات التي يجريها جورج الخامس مع جورج الخامس!».
لم يتمالك الإنجليز غير أن يصرفوا عدلي يكن من مهمته، وبعثوا إلى سعد زغلول ليستأنفوا المفاوضات معه. كان عدوهم اللدود، ولكن الجولات الدبلوماسية تقتضي المجاملات والرقة. فكر في ذلك وتحير فيما يمكن أن يقوله. حاول أن يجد شيئًا مشتركًا بين بريطانيا ومصر ينوه إليه، فقال: لو إننا سألنا يوليوس قيصر عما جرى له، لقال إن جميع ما حكمه من بلدان لم تسبب له من المتاعب كما سببت له بريطانيا ومصر.
وضج الحاضرون بالضحك والاستحسان.