بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

قتل في حلب.. وجدل بنيويورك

لو استمر جدل مجلس الأمن الدولي بشأن مجازر سوريا أسابيع أو أشهرًا، فلن يضر ذلك واشنطن أو موسكو شيئًا، أما حقول الدمار والقتل فسوف تتسع رقعتها أكثر، بينما ترتفع أعداد الضحايا؛ قتلى ومشردين وجوعى، في حلب وحولها، بدمشق وجوارها، عاث الفساد فضرب خير البلاد من درعا إلى الرقة حتى الحسكة ودير الزور، لا أحد ينجو من عمى شرٍ كاد يدمّر إرث حضارة الإنسان وينسف كل ما يرمز لها في تدمر، بل إن قوافل غوث تحمل الغذاء أو الدواء تطالها الحمم، فتعجز الأمم (غير) المتحدة عن لوم طرف محدد، كأن القصف هبط من كوكب آخر، أو كأنما كل هذا الرهط المتقاتل فوق جثث الأبرياء بسوريا، أو العراق، وبأي مكان يُقتل فيه البشر جورًا، ليس بينه مَن يملك جرأة تحمّل حتى مسؤولية القتل الخطأ. الحق أن في هذا ما يعزز القول إن كل الذين يقتلون لمجرد القتل، هم جميعًا جبناء يزعمون شجاعة الرجال، ذلك أن للحروب قوانينها، ولفرسان الوغى نبل خُلقٍ هم أجمعون منه بَراء.
ليس بوسع أحد التكهن كم من الزمن يستمر تبادل التهم بين واشنطن وغيرها من عواصم الغرب، من جهة، وموسكو وحلفائها في الجهة المقابلة، حول من المُلام أكثر من الآخر بسبب مآسي سوريا، لكن المؤكد هو أن سوريا التي ذهبت مع ريح ما سمي «ربيع» العرب لن ترجع، لقد ولّت الأدبار، ومحلّ نسيجها المتناغم حلّ دمار بني ملجم الجدد.
تُرى، أهو حريق مكتبة بغداد مقدّر له أن يتكرر على أبواب قلعة حلب، أهم تتار جنكيز خان يستنسخ نهجهم «داعش» أبي بكر البغدادي وما شابهه؟! ألم يقل أولون إن نصوص التاريخ تعيد إنتاج ذاتها بشخوص وأسماء شتى؟ نعم، إنما قلّ التعلّم من دروس الماضي، وندر أن يعتبر القوم مما جرى لأسلافهم، فتوالت الفتن على المسلمين، واحدتها تلد ما بعدها، وبدل أخذ العبر، ساد اعتقاد بأن الأسلم هو سدّ باب الكلام نهائيًا، وجرى إغلاق أبواب الاجتهاد بإحكام، فأطفِئت مصابيح تنوير كان الأحرى أن تُضاء في فضاء العالم الإسلامي كله، وعِوض أن ينهض فكر يفتح أبواب المستقبل أمام أجيال المسلمين بلا مساس بثوابت العقيدة وأركانها الأساسية، إنما كذلك من دون هلع إزاء أي تقدم في العالم يطوّر واقع الناس ويوفر فرصة العيش بمستوى حضاري أفضل في كل مجالات الحياة، عِوض ذلك راح تيار الترهيب ينتعش على مراحل، وإذ اشتد له الساعد أخذ يصول بمشارق أرض العرب ويجول في مغاربها، بلا حسيب يلجم مؤدلجين هم ورثة فكر ابن ملجم، ورغم أن بعضهم يضع ربطة العنق وقد يتسوق بأفخم متاجر أوروبا، لكنهم موجودون وراء ستار المسرح، يمارسون غسل الأدمغة، ويسهمون في تسويق إرهاب قتل أعمى لا يفرّق بين أطفال أو نساء، في مطاعم أو مكاتب، بأسواق أو في طائرات، بقطار أو في حافلات، بدعوى أنه «استشهاد» يطبق فريضة «الجهاد» وفق أهوائهم. وإذ وقعت قارعة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، فطفح كيل الدم، وشق دخان نار الكره الأسود الطريق إلى عنان السماء، بدا أن الوقت تأخر كثيرًا، وأن اختراق مجتمع العرب المدني اتسع على الرتق. رغم ذلك، لم يكن الاستسلام للتطرف هو الحل، فأن يأتي الدواء متأخرًا خيرٌ من ألا يأتي أبدًا.
ذلك الغياب للاعتبار حصل على صعيد المنازلة الفكرية مع فصائل التطرف وتنظيماته. أما على مستوى تصرف أنظمة حكم عربية عدة، فغياب أخذ العبرة، واستخلاص الدروس واقع منذ مطالع ما بعد التحرر من الاستعمار الأوروبي. في هذا السياق قد يفيد استحضار مقولة تاريخية للزعيم التونسي الحبيب بورقيبة خلاصتها أن الحفاظ على الاستقلال هو الجهاد الأكبر.
وافق التونسيون زعيمهم، فكرموا بورقيبة وأعطوه صفة «المجاهد الأكبر»، وجهِدوا للحفاظ على استقلال بلدهم وتحديثه، ثم أتت أجيال من الساسة راحت تقدم أمجادها ورفاهية حاشيتها على بسطاء الناس والمُعترين. بقية الدراما معروفة، ومتواصلة، ليس فقط بتونس الخضراء، بل في كل بلد عربي زعم ساسته، سواء في الحكم أو المعارضة، أنهم حريصون على استقلال الوطن ومستقبل أبناء البلد، فيما ولاؤهم يتنقل وفق الهوى، يُباع ويُشترى بأسرع من حركة الأسهم في نيويورك أو لندن أو غيرهما. أين العجب إذن أن تتمدد حقول الدمار والقتل بسوريا وغيرها، فيما الحل رهن التوافق بين واشنطن وموسكو؟!