فوزية سلامة
TT

دبلن كمان وكمان

لا يمكن أن ينسى الإنسان أول يوم في المدرسة. ولا يمكن أن ينسى يوم عرسه. ولا يمكن أن ينسى اليوم الذي أصبح فيه أبا أو أما.
والمغترب لا يمكن أن ينسى أول أيام اغترابه. وهكذا أنا. لم أنس يوما رماديا يتساقط فيه المطر وأنا جالسة على مقعد في حديقة عامة أنتظر صديقة مصرية كانت سبقتني إلى جامعة دبلن لبدء الدراسات العليا بعام. كنت جالسة أنظر بعين نصف غائبة عن الوعي إلى الصفحة الأولى من جريدة «الأوبزيرفر» وأنتظر بصبر نافد أن تأتي صديقتي لتخرجني من دائرة الأفكار السلبية التي يجربها المغترب في بداية اغترابه. أنظر إلى قتامة الجو وأشتاق إلى شمس القاهرة ولا أسمح لتفكيري أن يقترب من الخوف الذي يمكن أن يبتلعني ويشرب من بعد ابتلاغي كوبا من الماء فيهضمني وأصبح نسيا منسيا.
وإن تمكن القارئ من القفز عبر السنين يلتقي بي في آخر أيام قضيتها في دبلن بعد التخرج والإذعان لمقتضيات الضرورة حين اضطررت للرحيل إلى مدينة أخرى فيجدني دامعة أسيفة غير مستعدة مطلقا لترك المدينة التي أمضيت فيها سنوات دراستي حتى حصلت على الماجستير وكونت صداقات واشتريت كتبا وشاهدت مسرحيات واستمعت إلى الموسيقى الكلاسيكية وتعلمت الفرق بين الكونشيرتو والسيمفونية. دخلتها صبية قليلة العلم والمعرفة وخرجت منها أكثر ثقافة وأكثر حذرا.
والحق يقال إنني انتقلت إلى لندن فأكملت مشواري العلمي والثقافي والحياتي وأصبحت في وجداني أثرا محببا مستقرا.
الطرفة التي تذكرتها اليوم هو أنني زرت دبلن بعد أن تركتها بعشرين عاما. خرجت منها شابة وعدت إليها وأنا في منتصف العمر. فقد دعيت بعد عشرين عاما لإلقاء كلمة عبر الإذاعة الأيرلندية عن حياتي في المدينة كطالبة وحياتي فيما بعد ذلك الوقت كصحافية تعمل في قطاع الإعلام العربي. والحقيقة هي أنني ترددت في قبول الدعوة خوفا من أن تطأ قدمي المدينة التي أحببت فأشعر بأنني أصبحت غريبة فيها. ولكني في النهاية قبلت الدعوة. وبعد أن انتهيت من إلقاء كلمتي في الإذاعة خرجت إلى الشارع الرئيس وأنا مضطربة قليلا وخائفة كثيرا. ومشيت مهلا أنظر من حولي فهذا هو مكتب البريد الرئيس في شارع أوكونيل واتجهت رأسا في اتجاه الجامعة التي كنت أتذكرها بكل تفاصيلها من المدخل الذي يحتله تمثالان أحدهما لأوليفر جولدسميث والآخر لإدموند سبنسر. وكم جلست على سلم مبنى في المدخل ساعة غروب الشمس انتظارا لصغار الطيور وهي تأوي إلى مساكنها ليلا في سقف المبنى المقابل. كنت غائبة في دائرة أفكاري تلك حين استوقفني رجل أيرلندي وسألني: هل تعرفين أين يقع شارع داوسون. فقلت له: نعم سر في خط مستقيم، ادخل أول شارع على اليسار بعد مبنى الجامعة تجد شارع داوسون. فشكرني وانصرف. وساعتها شعرت باطمئنان شديد لأنني لم أنس أين يقع شارع داوسون ولأن الأيرلندي لم يشعر بأنني غريبة على المكان فسألني عن مقصده وهو شبه متأكد من أنني سوف أدله على ما يريد.
وعند هذه النقطة قررت أن أستقل الباص ولو لمحطة واحدة لكي يكتمل إحساسي بأنني عدت إلى مدينة شبابي. وجاء الباص وصعدت وقدمت ورقة من فئة الجنيه للسائق فنظر إلي ساخرا وقال ليس معي فكة. فوقفت ساكنة لمدة 30 ثانية لا أعرف ما يجب علي أن أقول أو أن أفعل. ثم استدرت لكي أهبط من الباص وأكمل مشواري على القدمين.
في تلك اللحظة ناداني السائق بأسلوب لا يجيده سوى الأيرلنديين: لم يكن يعرف اسمي بالطبع فاكتفى بنداء يعرفه أهل المدينة وهو: أووي. ومعناها «أنت يا اسمك إيه».
استدرت نحوه بعينين متسائلتين خوفا من أن أكون ارتكبت خطأ دون قصد. فنظر إلي وأومأ برأسه نحو داخل الباص. ومعنى ذلك أن ادخلي ولا تهم أجرة التذكرة.
وهنا فقط أدركت أنني عدت وأدركت لماذا بكيت مدرارا حين اضطرتني الظروف لمغادرة المدينة التي عرفت والتي أحببت أهلها وبساطة ريفية لم تفسدها حياة المدن وثقافة لم يقض عليها استعمار بريطاني امتد إلى قرون.