تخيل وقوف مؤسسة كبرى بأكملها على شفا كارثة، جراء السعي الحثيث المتغطرس من جانب مالكها وراء الربح. ورغم أن أعضاء فريق الإدارة، بدءًا من الرئيس التنفيذي وصولاً لما هم دونه حتى أدنى مرتبة إدارية، يدركون جيدًا حقيقة الوضع، فإنهم أخفقوا في التصدي لمالك المؤسسة أو تعرضوا للتجاهل. أما العملاء، فإنهم يبقون جاهلين تمامًا لحقيقة المخاطر التي يواجهونها حتى يفوت الأوان، ما يترتب عليه من نتائج كارثية - خاصة بالنسبة لأكثرهم فقرًا.
تلك هي قصة العمل الفني الرائع «تيتانيك» الذي يجري عرضه على مسرح «تشيرينغ كروس ثياتر» في لندن. وأثناء متابعتي لهذا التصوير الفني القوي للإخفاقات البشرية التي تسببت في غرق سفينة عظيمة كان يعتقد أنه من المستحيل أن تغرق، طرأت على ذهني فكرة أنه إذا لم نتحلَ بالحذر، قد تتكرر النهاية المأساوية ذاتها مع منظومة التقاعد العالمية.
مع وصول معدلات الفائدة لمستويات شديدة الانخفاض ووصول أسعار الأسهم والسندات لمستويات مرتفعة تاريخيًا، فإن مسألة العثور على استثمارات آمنة بإمكانها ضمان فترة تقاعد مريحة تزداد صعوبة يومًا تلو الآخر. وعليه، يجد مديرو صناديق التقاعد والمؤسسات الأخرى المشابهة الذين يتحملون مسؤولية الاستثمار نيابة عن المتقاعدين المستقبليين، في موقف صعب. وبسبب ذلك، يجد هؤلاء المسؤولون أنفسهم مضطرين لخوض مخاطر أكبر على أمل تحقيق أهداف الأداء المقررة سلفًا - وهي أهداف من غير المحتمل تحقيقها حال عدم إجراء عملية إصلاح كبرى للسياسات الاقتصادية وإمكانات الشركات. وبذلك نجد أن الأفراد أصبحوا يتعرضون على نحو متزايد لخطر خسائر من المتعذر تعويضها سريعًا.
بوجه عام، فإن درجة الأمن المالي طويل الأمد يمكن ضمانها بناءً على ثلاثة عناصر؛ العوائد المستقبلية، والعلاقات الترابطية بين فئات مختلفة من الأصول والتقلبات. وفي الوقت الحالي، تزداد الشكوك بخصوص المسار المستقبلي للعناصر الثلاثة.
ما هي العوائد التي يمكن للمستثمرين توقعها من المنظور الواقعي؟ مع توافر مزيج من نشاط البنك المركزي وإمكانات اقتصادية أقل إشراقًا يدفع عائدات السندات باتجاه السالب (أحدث الحالات وقعت في المملكة المتحدة)، فإن أسواق الدخل الثابت لم تعد تخلق أية عائدات حقيقية - إلا إذا أقدم المرء على مخاطرة أكبر من خلال جمع ديون صادرة عن الشركات وحكومات الأسواق الناشئة. داخل سوق الأسهم، وصلت الأسهم مرتفعة الجودة ذات الربحية العالية لمستويات مثيرة للخوف، الأمر الذي لا يترك سوى خيارات متقلبة ومرتفعة المخاطرة.
ورغم أن المستثمرين الأكثر حنكة قد يتمكنون من الوصول لأدوات استثمارية تتيح لهم الدخول لمجالات أقل ازدحامًا، فإن اختيار المدير المناسب ليس بالقرار السهل، خاصة في ظل عالم لم يعد به سوى خيارين؛ إما مكسب أو خسارة.
من حيث المبدأ، بمقدور المزيج الصحيح من الاستثمارات توفير عائدات أكبر عن المخاطرة ذاتها، إلا أن هذا الأمر لا يمكن نجاحه إذا لم تتحرك الاستثمارات على نحو متناغم - في وقت أصبحت العلاقات الترابطية بين فئات الأصول مؤخرًا أكثر تقلبًا وأقل إمكانية لأن يجري التكهن بها. ويدرك المستثمرون المحنكون المشاركون باستثمارات طويلة الأجل أن تنويع المحفظة، رغم كونه ضروريًا، لم يعد كافيًا للتقليل من المخاطرة بصورة مناسبة. بيد أن الخطوة العملية التالية ليست بالسهلة، وإنما تتضمن التخلي عن بعض العوائد المحتملة.
وهناك أيضًا عنصر التقلبات التي تزيد فرص تراجع قيمة استثمار ما في الوقت الذي يحتاج متقاعد مستقبلي إلى المال. خلال السنوات الأخيرة، أبدت البنوك المركزية بوجه عام استعدادها وقدرتها على كبح جماح التقلبات المالية. أما الآن، فقد تبدل الوضع، حيث تبدو بعض هذه البنوك، مثل البنك المركزي باليابان، أقل قدرة في الوقت الذي تبدو غيرها، مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي، أقل استعدادًا للقيام بذلك.
أما التداعيات بالنسبة لمديري الاستثمارات فتعتمد على النقطة التي يقفون عندها، بمعنى أن من يتولون الإشراف على خطط تقاعد خاصة أو عامة تعاني من نقص شديد في التمويل يواجهون مأزقًا صعبًا على نحو خاص: ذلك أنه يجب عليهم تحقيق عائدات كبيرة لتحقيق أهدافهم، وعليه يتعرضون لضغوط هائلة كي يخوضوا مخاطر يمكن أن تؤتي بنتائج كارثية حال عدم تقديم الشركات المعنية والاقتصاد أداءً جيدًا بما يكفي لتبرير أسعار الأصول القائمة. وحتى خطط التقاعد التي تتمتع بتمويل أفضل ستواجه تحدي الحفاظ على عائداتها التاريخية إذا ما رغبت في اجتذاب عملاء جدد.
ولتجنب وقوع كارثة، يتعين على صانعي السياسات ومديري الاستثمارات دراسة ثلاثة حلول؛ أولاً: التحلي بقدر أكبر من الواقعية تجاه العائدات التي يمكن تحقيقها في إطار الحدود المألوفة الخاصة بالتساهل تجاه المخاطر. ثانيًا: إقرار سياسات لتعزيز المدخرات والدخول، بحيث يصبح لدى الأفراد - خاصة الأكثر عرضة للخطر منهم - مزيد من المال المتاح لادخاره من أجل التقاعد. ثالثًا: ينبغي التعامل بشفافية مع المتقاعدين بخصوص المخاطر التي يجري خوضها نيابة عنهم، مع طرح خيارات أخرى عليهم تنطوي على مخاطر أقل، وكذلك عائدات أقل.
ومن دون إجراء تغييرات طارئة، قد ينتهي الحال بمنظومة التقاعد على النحو الذي آلت إليه «تيتانيك». ومثلما الحال مع ركاب السفينة، قد يواجه كثير من الأفراد عواقب مدمرة. ومثلما كان الحال مع ركاب الدرجتين الثانية والثالثة الذين واجهوا صعوبة في الوصول إلى قوارب النجاة، فإن القطاعات ذات الدخول الدنيا والمتوسطة ستواجه الخطر الأكبر.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
7:44 دقيقه
TT
المخاطر الهائلة وراء منظومة التقاعد
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة