ديانا مقلد
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
TT

قلق عميق

سنتذكر طويلاً مشهدية مخاطبة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لشعبه في الساعات الأولى للانقلاب الفاشل عبر تطبيق «فيس تايم». بدا ظهور إردوغان عبر هاتف مذيعة بعد تعثر تواصله مع الأتراك عبر الطرق التقليدية لحظة فاصلة لدى بحث علاقة السلطة بالإعلام وبوسائل التواصل الاجتماعي. حيث لطالما كانت علاقة إردوغان بالإعلام علاقة هشة، يغلب عليها التشكيك والسعي نحو السيطرة، بحيث بات لتركيا في عهده سجل يعد من الأسوأ لجهة حرية الصحافة. لذا بدت مفارقة لجوء الرئيس التركي إلى تطبيق «فيس تايم» والظهور السريع على محطة تلفزيونية مصيرها غامض، ومن ثم بثه عبر وسائل التواصل الاجتماعي لحث الأتراك على التظاهر، مفارقة في سجل مسؤول حاول لسنوات خنق تلك الوسائل، ونعتها بأسوأ الأوصاف، لكنها كانت أول ما لجأ إليه في لحظة مصيرية.
ومهما جهد إردوغان والمتحمسون له، خصوصًا في العالم العربي، من تبرير ما أقدم عليه من خطوات عقابية بعد فشل الانقلاب، لا يسعنا ضبط تلك القشعريرة التي تنتابنا ونحن نتابع تصيد معارضين بالآلاف ومن مختلف القطاعات، واتهامهم جماعيًا بقضايا خطيرة. ففي أيام بل ساعات قليلة عقب الانقلاب تزعزعت الثقة الضعيفة أصلاً بخطاب إردوغان عمومًا، لكن تحديدًا لجهة علاقته الهشة بعالم الحريات والإعلام. لا شك أن الانقلاب العسكري كان ليزيد المخاوف، خصوصًا مع ذلك التاريخ المرير لانقلابات من هذا النوع، ولا شك أيضًا أن تركيا نجت من تبعات خطيرة كان يمكن للانقلاب لو نجح أن يسببها، إلا أنه من الصعب جدا إعطاء إردوغان صك براءة، وهو الذي هدد الحريات قبل الانقلاب ويواصل الأمر بخطى أكثر خطورة بعده.
يكفي استذكار أنه وقبل الانقلاب تم اعتقال وتوقيف ألفي شخص بتهمة إهانة الرئيس، من بينهم مراهقان تم إيقافهما بسبب تعليقات على «فيسبوك». هذا فضلاً عن الملاحقات القضائية وسجن العديد من الصحافيين، وإغلاق ومراقبة وسائل إعلام، بينما تمت السيطرة على أغلب قطاع الإعلام المرئي عبر شخصيات نافذة ومقربة من حزب العدالة.
بمعزل عن أسباب فشل الانقلاب ومدى قوة القبضة الإردوغانية على تركيا، لا يمكن سوى التوقف عند صورة الرئيس التركي على تطبيق «فيس تايم» التي بدت وجهًا جديدًا لتحولات السياسة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي. فبالنسبة إلى مسؤول مثل إردوغان ليس كل مستخدمي «السوشيال ميديا» متساوين، وبالتالي يتم تجيير تلك الوسائل لذوي النفوذ لتحقيق نتائج وسلطة أكبر. هذا التناقض لا ينحصر في إردوغان، فهو أمر نلحظه في كثير من الدول التسلطية التي تمنع وسائل التواصل الاجتماعي عن شعبها، لكنها تستغله هي لتثبيت مزيد من الحضور والسيطرة. وهنا يصعب تجاهل عبارة إردوغان الشهيرة في وصف الانقلاب حين قال إن هذا الانقلاب «هبة من الله» ليطهر الجيش. وفعلاً بدأ مصطلح التطهير يتحول ليكون عنوانًا سياسيًا وإعلاميًا تستهدف من خلاله شرائح واسعة في تركيا كما بات واضحًا بحيث يبدو لمن يتابع الإعلام التركي القريب من الحكم أن أي انتقاد للحكومة اليوم هو خطر على الأمن القومي، ولا يتورع البعض عن التهوين من حرية التعبير والتشكيك فيها باعتبارها مرادفًا للإرهاب. وليس هناك أخطر من تلك الحسابات التي باتت تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي تبث لوائح بأسماء صحافيين ومعلقين وشخصيات تتم الدعوة لأن تشملهم إجراءات التطهير الحاصل. وكأنها فعلاً عملية صيد ساحرات كما وصفها البعض.
تركيا لم تكن جنة للصحافيين قبل الانقلاب، لكن لا يسع من يراقب ما يحصل سوى أن يشعر بقلق عميق لن تنحصر تداعياته في الأتراك وحدهم.

[email protected]