خليل رشاد
كاتب ومحلل سياسي مصري
TT

تلفزيون إيران.. صندوق رقابة!

للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تصرح شخصية بارزة - هاشمي رفسنجاني - الذي كان أيضا مخطط الثورة، بأن التلفزيون الإيراني صندوق رقابة. وأضاف أن الإيرانيين لا يثقون بالتلفزيون الرسمي، فهم لا يقبلون أفكاره وموقفه السياسي.
من المستحيل، في هذا العصر، تضليل الشعب عن طريق استخدام صندوق رقابة. لا يمكننا فرض وجهة نظرنا على عقلية الشعب. إنني أؤمن بأن جميع الثورات بدأت كحلم ساطع ومشرق، بيد أنها تتحول في النهاية إلى فوضى مظلمة. من الواضح أن تلفزيون إيران عبارة عن صندوق رقابي مطلق. ودعني ألخص لك القصة من خلال شرح مثال شيق.
في عام 2009. كان هناك طابور طويل ممتد من شارع كينغستون بطول الطريق إلى قنصلية إيران في لندن. وقد كنا جميعا منتظرين للإدلاء بأصواتنا. ولم يكن أي شخص يتوقع وجود هذا الإقبال الضخم على التصويت، فقد كان هذا الطابور هو الأطول على مدار تاريخ انتخابات إيران في لندن. بيد أنه بغض النظر عن عدم وجود مصور تلفزيوني لالتقاط جميع هذه المشاهد والتحدث مع الإيرانيين، بل في عرض صورتي على التلفزيون الرسمي قائلين إنني معارض للانتخابات! وبحسب تقرير التلفزيون الإيراني، انتقدت الراغبين في المشاركة في الانتخابات. وعندما شاهدت صورتي والتفسير الوارد بشأنها، قلت لنفسي إن ما يقوم به التلفزيون الحكومي تجسيد للظلم. فقد كان ذلك في واقع الأمر تغييرا للحقيقة وبكل ما تحمله الكلمة من معنى.
أذكر أنني عندما التقيت والدي مؤخرا سألني عن سبب لقائي رئيس الوزراء الإسرائيلي! أخبرته أنني لم ألتق به على الإطلاق طيلة حياتي! فإذا بوالدي يحملق في عيني ويقول لي «لكني شاهدت صورتك معه على شاشة التلفاز»! واضطررت أن أشرح له الأمر، وأن تلك الصورة زائفة، وأن كل ما في الأمر هو حركة خداع أخرى من قبل التلفزيون الرسمي الإيراني.
عندما انتقد آية الله هاشمي رفسنجاني الانتخابات الرئاسية في 2009. فقد منصبه بوصفه أكثر أئمة الجمعة البارزين والمرموقين في طهران بعد 28 عاما. وعلاوة على ذلك، بدأ تلفزيون إيران في الإشارة إليه على أنه حجة الإسلام! وبالتأكيد أن حجة الإسلام يعد لقبا عظيما له، وكما تعرفون أن الإمام الغزالي معروف بلقب حجة الإسلام. ورغم ذلك، ففي عادات معاهد إعداد الشيعة، تعتبر حجة الإسلام مكانة تقل درجتين عن آية الله! ويعتبر ذلك الأمر مثل درجات الرتب العسكرية أو مثل ألوان القبعات في الكنيسة الكاثوليكية. فعلى سبيل المثال، يعرف الجميع أن الرئيس السابق محمد خاتمي كتب كتبا رائعة بصفته فقيها وفيلسوفا، كما أنه عالم لاهوتي ممتاز. بيد أن تلفزيون إيران أخفق في ذكر أي من هذه المناقب، وفرضوا رقابة على اسمه وصورته بشكل كامل. وعلى الجانب الآخر، فلدينا رجل دين عادي وهو أحمد خاتمي الذي يعد أحد أئمة الجمعة الآخرين في طهران. ومن المثير للاهتمام، أنه تجري الإشارة إليه في التلفاز على أنه آية الله! وبمعنى آخر، توضح هذه الأمثلة أنه في حال دعمك للحكومة، ستصبح بين عشية وضحاها آية الله. بيد أنه في حال دفاعك عن حقوق الشعب مثلما فعل محمد خاتمي، فلن تسمح لك الحكومة بالسفر إلى البلاد الأخرى، ولن يتسنى لك طباعة كتبك.. وهلم جرا.
ويقال: إن بول جوزيف غوبلز، وزير الدعاية لهتلر، اتصل بـ«فريتز لانغ»، المصور السينمائي الألماني العظيم، واقترح عليه أن يصنع فيلما عن هتلر. وحاول لانغ إيجاد مخرج آمن وسليم لهذا الأمر وحماية مصداقيته في نفس الوقت. وقد رد على ذلك قائلا إن عمتي امرأة يهودية، وفي حال عمل هذا الفيلم فقد أواجه بعض المصاعب. وأخبره غوبلز بألا يقلق حيال ذلك، فنحن من نقرر من هو عمته يهودية أو غير يهودية ومن الذي سيواجه مصاعب من عدمه.
وبمعنى آخر، تؤمن الحكومة بأنها هي المصدر المطلق لنقل الحقيقة، ومن ثم، فيمكنها تبرير شرعيتها. وعليه، ففي حال اكتشاف وجود مفكر أو ناشط سياسي أو صحافي أو فنان يتكلم ضد الحكومة وينتقدها، فإنه يعتبر خائنا، ولذلك تجري تسميته ووصمه بالعار على أنه عدو. وتعتبر أفضل أداة ووسيلة لتحقيق هذا الغرض هي التلفاز. وليس لدى الشعب أي خيار آخر سوى ضرورة استخدام القنوات الفضائية. ويعني ذلك، أنه في حال عدم تمكن التلفزيون الرسمي والحكومي من إقناع الشعب، فإنهم سيجدون طريقا آخر.
هل يعني ذلك أن هذه الاستراتيجية تجدي نفعا في الواقع؟ إن الإجابة هي لا وألف لا، لأننا نعيش في عصر جديد هو عصر الإنترنت والـ«فيس بوك» و«تويتر» والهواتف الذكية. إن هذا الوقت مختلف تماما ولا يشترك كثيرا مع عصر الاتحاد السوفياتي. كان البث في عصر الاتحاد السوفياتي مملوكا ومسيطرا عليه بإحكام وصرامة من قبل الدولة. كانت الجهة الحاكمة للبث التلفزيوني في اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية متمثلة في «لجنة الاتحاد السوفياتي للبث التلفزيوني واللاسلكي».
لقد كان طغيان الدعاية واستبداديتها في الاتحاد السوفياتي مأساة تراجيدية، بيد أن الدعاية في وقتنا الحالي وفي هذا التوقيت تعتبر كوميديا هزلية. في الفقرة الأولى من مقال برومير الثامن عشر «لويس بونابرت»، كتب ماركس:
يبدي هيغل ملاحظته بأن جميع الحقائق الجليلة والتاريخية عالميا والشخصيات البارزة تظهر - إذا جاز التعبير - مرتين. ولكنه نسي أن يضيف: بأن الظهور في المرة الأولى يكون عبارة عن مأساة، فيما تكون المرة الثانية مهزلة. كوسيديير مكان دانتون، لويس بلان مكان روبسير، ومونتان من 1848 إلى 1851. ومونتان من 1793 إلى 1795، ابن الأخ مكان العم. والصورة الكاريكاتيرية نفسها تظهر في الظروف التي رافقت الطبعة الثانية للثامن عشر من برومير.
لن يستطيع أي شخص الكذب على جميع الأشخاص مدى الحياة! ولذا فإن صندوق الرقابة صار في هذا العصر الذي يتميز بوفرة الاتصالات، أشبه بمرآة مكسورة لا يهتم بها أحد ولا يستطيع أن يرى فيها وجهه.