سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

فرائس

أوائل القرن الماضي تطلعت اليابان القوية حولها فلم تجد سوى بلدان ضعيفة وقوى مهترئة، فلم تترك بلدا لم تنقض عليه، من الصين إلى روسيا إلى كوريا. يومها كتب المؤرخ الألماني كورت سنغر أن «اليابانيين لديهم حاسة شم قوية لروائح الاضمحلال، وسوف ينقضّون على أي عدو تبدو عليه ملامح الضعف (...). إن استعدادهم للهجوم أينما تناهت إلى أنوفهم روائح التحلل، يجعلهم خلفاء قبائل الهون والمغول».

يستعد فلاديمير بوتين لضم المزيد من المناطق «الروسية» بعد القرم. تطلع حوله فرأى إدارة أميركية منكفئة عن شؤون العالم لأكثر مرة منذ عبورها المحيط الأطلسي إلى أوروبا قبل مائة عام، كأكبر قوة عسكرية في العالم. ورأى أوروبا فاقدة القوة من دون اندفاع أميركي. وتأمل الأمم المتحدة فوجد أن نقطة ضعفها في مجلس الأمن، فأشهر عليها سيف «الفيتو». وفي سوريا رأى باراك أوباما يتقدم فرقته البيانات والتصاريح. «أصدقاء سوريا» ينسحبون الواحد بعد الآخر حتى تخلوا عن هذا الاسم.

كانت هذه فرصة بوتين. لقد اشتم رائحة اهتراء. ورأى القوة الكبرى التي كان يخافها، تشهر سلاحا واحدا هو العقوبات. وبعضها فولكلوري. واستعادت «البرافدا» من الأرشيف الأسلوب السوفياتي، بينما تحصنت افتتاحيات أميركا خلف تعابير الديمقراطية في مواجهة الديكتاتوريات.

وتدخل الطيران الماليزي ليقف إلى جانب القيصر المهاجم. فقد التهى العالم بأخبار الطائرة الضائعة، تاركا له مواجهة الأوكرانيين بصوت الأحذية الثقيلة. صارت أخبار القيصر في الصفحات الداخلية. ولم تستأثر عقوبات أوباما المتسلسلة باهتمام أحد. فقد أخذت حجمها الطبيعي في حرب «الحبر على ورق».

كتب الإيطالي لويجي بارزيني في السبعينات، أن الفرق بين الإنجليزي والإيطالي، أن الأول يقول لا تضرب رجلا سقط على الأرض، أما الثاني فيقول إذا لم أضربه بعد سقوطه فمتى أضربه إذن؟! بوتين حفظ الدرس الإيطالي. والغرب لا يفيق من لكمة إلا ليتلقى أخرى. هو غارق في الأدبيات ومهتم بصورته الإعلامية، بينما القيصر يعرض على الروس صورته بكامل الأوسمة الحربية. شاركت نحو 40 دولة في البحث عن الطائرة الماليزية، لم تكن بينها روسيا. تجاهل القيصر إحدى أهم اللحظات الإنسانية الجماعية في التاريخ. ترك لذوي القلوب الضعيفة أن تتأثر بدموع أهالي الركاب، وانصرف إلى عروض القوة والفظاظة في سوريا وأوكرانيا ومولدوفا وفي دارة العم بان كي مون.