عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

عقيدة أوباما.. ومعاناة السوريين

مناظر القتلى والجرحى، خصوصًا من الأطفال، في حلب، أعادت معاناة السوريين إلى الواجهة، وحركت اللقاءات والاتصالات الدبلوماسية للنظر في كيفية توسيع الهدنة، وإعادة تحريك العملية السياسية المتوقفة. لكن التصريحات الصادرة عقب هذه اللقاءات، وتحديدًا عقب لقاء وزيري الخارجية الأميركي والروسي، ثم الاجتماعات مع المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، لا تبعث على التفاؤل بنهاية قريبة لمعاناة المدنيين، ناهيك بالقول بأي نهاية محتملة للأزمة السورية في المستقبل القريب.
مشكلة سوريا أن أزمتها وقعت في عهد رئيس أميركي جعل مسألة سحب القوات الأميركية من مناطق النزاع، وعدم الزج بقوات برية في مهام قتالية، ما لم يكن هناك تهديد مباشر لأمن أميركا ومصالحها، من بين أولويات استراتيجيته الخارجية وعقيدته السياسية. أضف إلى ذلك أن الأزمة السورية احتدمت في وقت كان تركيز أوباما منصبًا على التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، مما جعل الحسابات من أجل هذا الاتفاق تتداخل مع الحسابات في الأزمة السورية. لذا بدت السياسة الأميركية إزاء الأزمة السورية مترددة أحيانًا، وسلبية أحيانًا أخرى، وممانعة في كل الأحوال لأي تدخل مباشر يضطرها للدفع بقوات قتالية برية.
عندما تحدث وزير الخارجية الأميركي جون كيري، عقب لقائه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، هذا الأسبوع، عن مناطق آمنة، كأحد الخيارات لحماية المدنيين في سوريا، سارع البيت الأبيض للرد عليه والقول إن أوباما يرفض هذا الخيار لما يتضمنه من مسؤولية الدفع بقوات برية لحماية مثل هذه المناطق. هذا الكلام يشير إلى أن الجهود ستنصب بالأساس على توسيع الهدنة لتشمل حلب أيضًا، وذلك على الرغم من أن كيري اعترف بأن الهدنة كانت هشة وعرضة للخروقات والانتهاكات، وهو ما يعني ضمنًا أنها ستبقى كذلك في ظل عدم وجود اتفاق ملزم، وقوات لمراقبة التنفيذ ومنع حدوث انتهاكات.
مركز التنسيق العسكري الأميركي - الروسي الذي تحدث عنه كيري ولافروف لمراقبة الهدنة، لن يكون حلاً، خصوصًا مع التباين في الأهداف والاستراتيجيات بين واشنطن وموسكو، وتعدد الفصائل على الأرض، وعدم وجود توافق حول تعريف وتحديد «الإرهابيين» الذين تستهدفهم الغارات. فأميركا تركز في عملياتها واستراتيجيتها على محاربة «داعش»، والتعاون مع الأكراد، وتبقى مترددة حيال مسألة دعم المعارضة «المعتدلة» بأسلحة متطورة، خصوصًا بعد فشل تجربتها في تدريب وتسليح معارضين، إثر قيام بعض هؤلاء بتسليم أسلحتهم لجبهة النصرة أو اختفاء أثرهم بعد دخولهم إلى سوريا. أما روسيا، فإنها تعمل على دعم النظام السوري وتمكينه من استعادة مناطق مهمة خسرها في السابق، لتعزيز موقعه في المفاوضات، إذا بقيت هي المسار للحل، وليس الحسم العسكري الذي يبدو مستحيلاً في الوقت الراهن، وفي ظل موازين القوى الحالية، والتجاذبات الدولية، والصراع الإقليمي المحتدم.
كذلك، فإن موسكو ودمشق تستخدمان تعريفًا واسعًا للحرب على الإرهابيين، يشمل إضافة إلى جبهة النصرة فصائل معارضة أخرى تعتبرها واشنطن ضمن «المعتدلين». من هنا كان إصرار لافروف في تصريحاته عقب لقائه مع كيري ومع دي ميستورا على أن توسيع الهدنة وضم حلب إليها لا يعني وقف الغارات على «الإرهابيين». كذلك كان لافتًا مطالبته للفصائل المعتدلة بالانسحاب من مناطقها في حلب، والابتعاد عن مواقع جبهة النصرة.
المذهل أن لافروف تحدث عن أن 90 مجموعة مسلحة أعلنت انضمامها للهدنة، مما يعطي لمحة عن حجم المشكلة التي تواجه أي اتفاق لوقف العدائيات. فبعض التقديرات تضع عدد المجموعات المسلحة في سوريا في حدود الألف، أغلبها مجموعات صغيرة تعمل في نطاق محلي ضيق. لكن حتى بعد التحالفات التي عقدت بين المجموعات المختلفة، فإن عدد الفصائل المعارضة يظل كبيرًا جدًا، كما يبقى عاملاً معرقلاً لسريان أي هدنة، هذا إذا اقتنعنا أصلاً بأن «نظام التهدئة» المعلن يشكل هدنة ذات معنى.
الكلام عن الهدنة يجعل أميركا تبدو وكأنها تفعل شيئًا حيال الأزمة السورية والمعاناة الفظيعة التي يعيشها المدنيون سواء في حلب أو في غيرها من المناطق التي تشهد عمليات، في حين أن السياسة الأميركية الراهنة هي «الانسحاب» من أزمات المنطقة. ولأن أوباما لن يبدل في استراتيجيته، خصوصًا في هذا الوقت المتأخر من عمر إدارته، فإن وزير خارجيته كيري لجأ إلى التركيز على التعاون مع روسيا لتحقيق ما يمكن تحقيقه، رغم التباينات الهائلة في الأهداف بين الطرفين.
أميركا ستدخل قريبًا، إن لم يكن قد دخلت بالفعل، في فترة «البيات الانتخابي» التي تتوجه فيها الأنظار نحو معركة انتخابات الرئاسة والكونغرس (كل أعضاء مجلس النواب و34 من أعضاء مجلس الشيوخ)، والأزمة السورية ستتراجع أكثر في سلم أولويات الإدارة التي تستعد لترتيب أمورها استعدادًا للرحيل في يناير (كانون الثاني) المقبل. روسيا تدرك ذلك، وقد تعمل مع نظام الأسد لفرض حقائق جديدة على الأرض، مما يعني تصعيدًا في الحرب، ومعاناة أكبر للسوريين.