علي إبراهيم
صحافي وكاتب مصري، ونائب رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

الهروب الكبير

مأساة هذه التي نشهدها يوميا مع أخبار القوارب الغارقة بمئات المهاجرين سواء في البحر المتوسط قاصدين الساحل الإيطالي خلسة، أو بين السواحل الإندونيسية والأسترالية قاصدين أستراليا مثلما حدث لمهاجري القوارب اللبنانيين الذي غرقوا قبل أن يصلوا إلى مقصدهم.

بين المتوسط حيث غرق نحو 400 شخص خلال أسبوع، والمحيط حيث القارة الأسترالية البعيدة على بعد آلاف الأميال، غرق عشرات هناك أيضا في البحر في حادث أخير، ويعود الناجون أو الذين لم يكتبوا مغامرة البحر بقصص مأساوية بعد أن فقدوا أقارب أو عائلات لهم بالكامل في عرض البحر.

الأرقام والوقائع تتحدث عن نفسها وتعطي صورة تستحق التفكير فيها، فهؤلاء المهاجرون وبينهم نساء وأطفال صغار يعرفون حجم المخاطرة بصعود قوارب بدائية إلى عرض البحر ليتسللوا إلى ساحل بلد ما، وهم يدفعون مبالغ ليست قليلة تقدر بعدة آلاف من الدولارات للمهربين، أي أنهم ليسوا معدمين تماما، ومع ذلك يلجأون إلى هذه الوسيلة للهروب من واقعهم بما يعني أنه لا يوجد أي أمل لديهم في المستقبل في بلدانهم. الحقائق الأخرى أن معظم هؤلاء من مهاجري البحر والقوارب من بلدان عربية، وهي ظاهرة حديثة، انضموا إلى مهاجري القوارب من أفريقيا وآسيا، وغالبية هؤلاء المهاجرين أو طالبي اللجوء البحري من المسلمين كما تظهر أسماء الناجين وضحايا حوادث القوارب الأخيرة. وكلهم يريدون الذهاب إلى دول غربية بينما الدول الأخرى سواء العربية في المنطقة أو ماليزيا وإندونيسيا في آسيا هي نقاط عبور أو ترانزيت وليست مقصدا نهائيا.

الأرقام بالمئات أسبوعيا، وهذه هي الأرقام التي تكتشف إذا ما كان هناك مئات أو آلاف آخرون نجحوا بالفعل في الوصول إلى الساحل، أو في أماكن الانتظار مثل ليبيا التي قال تقرير أمس إن حديقة الحيوان المهجورة فيها أصبحت مركز تجمع للاجئين الذين يتخذونها نقطة ترانزيت للاتفاق مع المهربين الذين يحتمون بالطبع بالميليشيات المسلحة لتنظيم عبور البحر.

وهي ظاهرة وإن كانت موجودة سابقا، إلا أن الكثافة العربية الأخيرة فيها لم تحدث إلا في الأعوام الأخيرة مع التدهور الأمني في عدة بلدان، وخصوصا سوريا التي تشهد حربا أهلية ضروسا أدت إلى نحو مليوني لاجئ وتقديرات بأنه سيكون هناك نحو 4 ملايين نازح ولاجئ آخرين في عام 2014 لو استمرت الحرب بهذه الوتيرة.

معنى ذلك أن تدفق القوارب لن يتوقف، وعلى العكس قد يزداد، فحوادث الغرق ليست جديدة، والروايات المأخوذة من الناجين أو الذين نجحوا في العبور إلى البر الآخر تعكس صورة أناس مستعدين للتضحية بكل شيء للوصول إلى ما يتصورونه شاطئ السعادة، فالحقيقة أنه أيا يكن الواقع فإن هؤلاء المخاطرين بحياتهم عبر البحر يسعون إلى شيء يرونه مفتقدا في مجتمعاتهم سواء على صعيد الأمن أو احترام حريات الأفراد، أو لأنه لا يوجد مستقبل لشيء، وهذه هي المأساة. وفي الحقيقة إنهم عندما يصلون سيكتشفون أن الحياة ليست بهذه السهولة التي يتصورونها في مجتمعات صحيح أنها متقدمة وصناعية لكنها تواجه مشكلات بطالة وتباطؤ اقتصادي ومنافسة على الأعمال بين السكان المحليين الذين لا يريدون أن يأتي أحد من الخارج، خصوصا إذا كان لا يتمتع بمهارات عن طريق البحر لمنافستهم.

ولا يوجد ما يمكن أن يحد من هذه الظاهرة بشكل عملي وواقعي سوى إعادة خلق الأمل في هذه المجتمعات التي تشهد ما يشبه الهروب الجماعي لسكانها، فواقعيا لو أتيحت الفرصة في بعض البلدان لسافر الجميع، وتركوا البلاد للذين حولوها إلى خرابة خلال قتالهم عليها. وإعادة خلق الأمل ترتبط بالاستقرار والأمن، وشعور الفرد بأن هناك أملا في مستقبل يجد فيه فرصة عمل مناسبة أو ثمرة للاجتهاد في العمل وحدا أدنى من الحريات الشخصية واحترام التنوع الموجود في أي مجتمع.

أما البلدان المستقبلة لهذه القوارب سواء في أوروبا أو أستراليا فإن لها الحق أن تخشى من موجات الهجرة التي تواجهها، لكن الحل الحقيقي هو في مساعدة البلدان الطاردة لسكانها على التطور والنمو ورفع مستويات المعيشة، وقد تكون تكلفة ذلك أقل من تكلفة إقامة الحواجز ودوريات المراقبة إلى آخره.