هل الانتخابات الأميركية، رئاسية أم تشريعية، هي انتخابات غير ديمقراطية تلعب فيها رؤوس الأموال في مجتمع رأسمالي مفتوح دورًا غير ديمقراطي بالمرة ما يجعل القرار في نهاية الأمر في يد زمرة بعينها من النخبة وبما يسحب من تحت أرجل ملايين الأميركيين بساط الاختيار وحق الانتخابات بطريقة أو بأخرى؟
في فترة حملته الانتخابية عام 2008 كان الرئيس الأميركي باراك أوباما يرفع من صوته مؤكدًا أنه رشح نفسه لمواجهة ظاهرة قمع أصوات الأميركيين العاديين لصالح القلة النخبوية المتميزة في واشنطن.. كان أوباما يشير إلى التبرعات غير المحدودة من ملايين الأموال التي تصب على جماعات الضغط التي تتحكم في توجيه الكتل الانتخابية وبالتالي حسم الانتخابات الرئاسية خاصة، لصالح مرشح بعينه.
هل نجح أوباما في مواجهة أزمة الديمقراطية المعروضة للبيع على رصيف الانتخابات الأميركية؟
يبدو أن حظوظ إخفاقاته هنا، تتساوى مع بقية مشاهد الفشل في السياسات الخارجية، ما يدلل على أن المسألة أكبر وأكثر عمقًا من قدرة الرئيس على التأثير فيها. إنها ثقافة أمة، ومسار رأسمالي متوحش، وفعلة حقيقيون غير ظاهرين يرسمون مسار هذا البلد ومصيره... لماذا هذا؟
في يوليو (تموز) من عام 2010 أقرت المحكمة الأميركية الاتحادية، حق جماعات الضغط في الولايات المتحدة في الحصول على مبالغ غير محدودة من المال لتمويل أنشطتها السياسية، ولم يقدر لأوباما أكثر من أن يطلق تصريحًا أجوف قال فيه: «لا أعتقد أنه يجب السماح بتمويل الانتخابات الأميركية من قبل أصحاب المصالح الأكثر نفوذًا في أميركا، أو ما هو أسوأ من قبل الجهات الأجنبية..».. هل من أرقام بعينها تكشف مدى التشوه الذي لحق بالعملية الديمقراطية في الداخل الأميركي بسبب حملات التمويل السياسية المشينة هذه؟
أفضل من عمل على ذلك الكاتب الأميركي والمحلل السياسي كين فوغل عبر مجلة «بوليتيكو» الشهيرة، وكانت المناسبة هي الانتخابات التشريعية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014. حيث أشار إلى أن مائة ناخب أميركي من كبار المانحين، قد قدموا من الأموال للمرشحين، ما يعادل 5 ملايين شخص تقريبا من الأميركيين العاديين، الذين قدموا 200 دولار أو أقل لهؤلاء المرشحين.
«هل يتساوى الحزبان الجمهوري والديمقراطي في السعي وراء تلك الأموال المشبوهة؟
جرى العرف إعلاميًا أن يتهم الديمقراطيون منافسيهم الجمهوريين بالسعي وراء الحصول على أموال الأثرياء من كبار المانحين، غير أن تقرير فوغل يكشف كيف أن 52 من أصل 100 من كبار المانحين في الولايات المتحدة هم من الديمقراطيين، والجهة المانحة رقم واحد في البلاد حتى الآن هي الديمقراطي توم ستير الذي قدم 74 مليون دولار.
الكارثة الكبرى التي سوف تؤثر على مستقبل القرار السياسي في أميركا، وربما عند لحظة تاريخية ما تدفع لحدوث انقلاب كامل تجاه التركيبة السياسية للدولة بشكلها الفيدرالي ودستورها وقوانينها الحالية، تتصل بأصحاب رؤوس الأموال الجديدة التي باتت تشارك في عملية تمويل الحملات الانتخابية، والقاعدة الرئيسية، هنا هي أن: «من يدفع للزمار هو من يحدد اللحن».
قبل فترة وجيزة ومع حمى وطيس الحملات الانتخابية نشرت «نيويورك تايمز» تحقيقًا مطولاً، أشارت فيه إلى أن نصف الأموال التي تم ضخها لدعم المرشحين الديمقراطيين والجمهوريين على السواء أتت من 158 أسرة ثرية فقط، حيث قامت بالتبرع بـ176 مليون دولار في المرحلة الأولى من الحملات الدعائية للمرشحين، وهي أسر لا تنتمي معظمها لطبقة الأثرياء الأميركيين التقليديين، بل تتحدر أغلبها من أصحاب الثراء السريع الذين دخلوا لعبة رأس المال في نيويورك، أو اشتروا حقوق استغلال النفط في تكساس بأقل من ثمنها، أو وضعوا أقدامهم في عالم هوليوود وإنتاج الأفلام.
ما الذي ينتظر من الشعب الأميركي إزاء هذه الكارثة الأخلاقية، لا سيما وهو يرى أن قرار اختيار الرئيس بات خاضعًا لنفوذ جماعات ضغط المال السياسي من كوبا وروسيا، عطفًا على الصين القطب القادم بامتياز، بجانب باكستان والهند وإسرائيل، بل وكل من يستطيع أن يتبرع بمائة ألف دولار للرئيس ويحظى بليلة نوم دافئة في جناح أبراهام لنيكولن في البيت الأبيض وبشاي الصباح في حديقة البيت الأبيض مع الرئيس الأميركي؟
التأثير مروع ولا شك، ويؤدي بالأميركي العادي إلى فقدان ثقته بالعملية السياسية في البلاد برمتها، وقد أثرت الظاهرة في نفوس الأميركيين الذين أدركوا أن المال هو من يحدد نتائج الانتخابات، ففي انتخابات التجديد النصفي عام 2014، كان إقبال الناخبين بنسبة 36.3 في المائة الأقل لمدة سبعة عقود تقريبًا على الصعيد الوطني. وفي 12 ولاية بما في ذلك نيويورك وكاليفورنيا وتكساس، لم يزعج حتى ثلث الناخبين أنفسهم بالذهاب للتصويت.
من يحكم أميركا اليوم؟ تحكمها الأقلية والرشوة السياسية.
من قائل هذه العبارة؟
إنه الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في حواره مع برنامج «هارتمان الإذاعي» في أغسطس (آب) المنصرم، حيث أشار إلى أن الولايات المتحدة اليوم تحكمها أقلية وأن الرشوة السياسية غير المحدودة قد خلقت تخريبًا كاملاً للنظام السياسي كمكافأة للمساهمين الرئيسيين، وأن كلاً من الديمقراطيين والجمهوريين ينظرون إلى هذا المال غير المحدود على أنه يشكل فائدة كبيرة لهم.
هل أميركا تواجه أزمة حرية؟
طالما بقي المسؤولون المنتخبون، وكل الشعب صاحب السيادة، رهائن في يد الأموال غير الديمقراطية، يبقى بلد الحريات في حاجة إلى من يحررها من داخلها.
10:39 دقيقة
TT
الرئاسة الأميركية.. ديمقراطية للبيع
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة