نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

جسور سلمان وجدران إيران

ليس الجسر منشأة هندسية وحسب. الجسر فكرة ومفهوم. وهو، ربما إلى جانب محركات البخار والطائرات، من الاختراعات التي لازمت فكرة النهوض والتقدم، والانتصار على الجغرافيا.
كل نشاط تقدمي في حركة الإنسان، اقترن بتطويع ما للجغرافيا، والتحايل على عقباتها، متجاوزًا بالاتصال مكونات الفصل.
في العالم الحديث، صارت الجسور ضوئية أيضًا. ملايين الألياف والوسائط الافتراضية التي تصل نقاطًا على سطح الكوكب لم يكن وصلها ممكنًا.
باراغ خانا، أحد أبرز المفكرين الشباب، وأحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في العالم، صاغ مفهومًا حديثًا لوصف خريطة العالم الراهن. ثمة خريطتان، يقول الرجل، في محاضرة باهرة في تقديم كتابه «جغرافيا الاتصال» «Connectography»، العالم كما نعرفه، والذي تحدده الخطوط السياسية للخرائط، والعالم كما نستخدمه، والذي تحدده خطوط الاتصال المادية والافتراضية. العالم وفق هذه النظرية ليس مقسومًا بين شرق وغرب، أو جنوب وشمال، أو معسكر شيوعي مقابل معسكر ليبرالي، بل بين مجموعة الدول، أو المدن في حالات كثيرة، المتصلة، وتلك التي تعاني من نواقص الاتصال.
ليس طول الحدود البحرية وحده ما يصنع الفرق، بل طول الألياف الضوئية ومستوى انخراطها الاتصالي بألياف أخرى. المطارات، القنوات المائية، الجسور، الموانئ البحرية والنهرية، وغيرها من وسائط اتصال مادية وافتراضية وبنى تحتية، هي محددات القوة السياسية والاستراتيجية في القرن الحادي والعشرين، بل محددات الخريطة غير المرئية للعالم الذي نعيش فيه فعلاً، خلافًا للعالم الواقعي الذي اعتدنا على العيش فيه افتراضيًا. هذه مفارقة مهمة. نعيش واقعيًا في عالم شبه افتراضي، في مقابل عيشنا شبه الافتراضي في العالم الواقعي الذي تدربنا على رؤيته وفهمه.
فما يحدد العلاقة بين سياتل وتيجوانا، أو فانكوفر ومكسيكو سيتي، أو توغو وجوهانسبورغ، أو بكين وغيرها، ليس الحدود الجغرافية التي نراها على الخريطة، بل الخطوط الافتراضية والمادية التي تصل بين هذه النقاط والمدن، وتصنع مقومات القوة والتقدم.
في هذا الواقع التحولي على مستوى العالم، جاءت الأنباء عن تجديد الالتزام ببناء الجسر بين المملكة العربية السعودية ومصر، أو بين آسيا وأفريقيا فوق مياه البحر الأحمر.
الفكرة ليست جديدة. طرحت بداية عبر دراسات أولية عام 1988. ثم تقرر وضع حجر الأساس للمشروع عام 2006، قبل أن يتم التراجع عن الخطوة لأسباب سياسية، بينها ضغوطات مارستها إسرائيل على نظام الرئيس حسني مبارك، ثم أثير المشروع مرارًا عامي 2011 و2012، فيما أعلنت وزارة النقل السعودية تاريخًا مبدئيًا للعمل بالمشروع في منتصف 2013. وتنوعت المخططات الهندسية للمشروع، وتباينت مقاييسه ونقاط انطلاقه ونقاط وصوله ومسارات مروره. غير أنه للمرة الأولى يبدو المشروع أقرب إلى التحقق والواقع، لا سيما في توقيت حساس يمر به العالم العربي على مستويات الاقتصاد والسياسة، تحكمه متغيرات تتحرك بسرعات قياسية.
«جسر سلمان» جزء من عقيدة جسور أوسع تتبناها المملكة، جسر جوي للأمن في اليمن، وجسر سياسي عسكري إسلامي جسدته مناورات «رعد الشمال»، وجسر دبلوماسي وسياسي مع روسيا، وجسور نامية مع الصين والهند، وجسور اقتصاد وتنمية مع مصر، كان من بينها جسر سلمان، فيما الهدف الأعمق جسر عروبة حديثة ناهضة واثقة فاعلة ومتحركة، ومنخرطة إيجابيًا في العالم.
حاولت العروبة الناصرية، بناء جسور عقائدية، شابها من الاضطراب أكثر بكثير مما حملت من مكونات الانسجام. فكانت الوحدة السورية المصرية، تجسيدًا لهذا الافتعال، وكان انهيارها مريعًا. ثم جاءت عروبة البعث، لتقترح التوحيد القسري والاستحواذ العنيف، من بعث سوريا وعلاقته بلبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، إلى بعث العراق وعلاقته بالكويت وما بينهما من عسكر ومخابرات وسجون. وهي صفحات تطويها اليوم عروبة «جسور سلمان»، التي تواجه أيضًا، في الداخل، جدران إيران. الجدران التي يحاول تشييدها نظام الملالي بين المكونات الاجتماعية في الدولة الوطنية العربية، أو بين الدول نفسها، عبر اختطاف جزء من مكوناتها. جدران بين الشيعة والسنة، جدران بين اليمنيين، جدران بين العراقيين، جدران بين أهل الخليج، وبين دوله في مرحلة سابقة. ولعل لبنان يشكل أبرز نجاحات الملالي حتى الآن في رفع الجدران بين الوطن الصغير والمملكة.
في فيلمه الأخير «جسر الجواسيس» يعيد المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ بناء رواية «جسر غلينيكه»، أحد أشهر الجسور بالعاصمة الألمانية برلين، والذي يصل بينها وبين مدينة بوتسدام. في السنوات الأولى للحرب الباردة، ومع بناء جدار برلين، أقفلت سلطات ألمانيا الشرقية الجسر في وجه مواطني ألمانيا الغربية. وما لبث أن تحول الجسر مسرحًا سريًا لتبادل الكثير من الأسرى والعملاء والجواسيس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
ارتفع الجدار وألغي الجسر. غير أن واحدة من المفارقات بالغة الدلالة، أنه حين هدم جدار برلين، أعيد ترميم «جسر الجواسيس»، وفتح أمام المشاة ليعود إلى وظيفته الأولى. الوصل في مواجهة الفصل.
وحدها الجسور تستمر وتحيا، فيما الجدران مصيرها العدم.
جسور سلمان ستزدهر، أما مصير جدران طهران، فلن يختلف عن مصير جدار برلين.