تشارلز بلو
كاتب أميركي
TT

نهاية المثالية الأميركية

أحيانًا يكون من الصعب التخلص من شعور غير مريح بأننا نعايش حاليًا انحلال وتلاشي فكرة كانت تمثلها الولايات المتحدة يومًا ما. حتى الآن، لا تزال أميركا قوة عسكرية واقتصادية عظمى، ومحركًا اقتصاديًا جبارًا. ومع ذلك، يكشف الوقت أن مؤسساتنا إما معيبة على نحو جوهري أو تعاني من خلل عميق.
ظلت هذه الفكرة تغالبني أثناء مشاهدتي المناظرة التي عقدت الخميس بين المرشحين الجمهوريين في ديترويت. وبدا المشهد برمته لحظة الذروة في كرنفال للسخف، عندما انحدر المرشحون لما بدا أنه تنافس في القدرات العضلية.
ولم أملك سوى الشعور بالفزع بمجرد التفكير في أن واحدًا من هؤلاء قد يصبح بالفعل رئيسًا للولايات المتحدة - قد يكون ذلك الشخص الديماغوغي من نيويورك، أو مشعل الحرائق والخلافات السياسية من تكساس، أو صاحب العقل الفارغ من فلوريدا. (ولا أرى في الواقع أي إمكانية لنجاح حاكم أوهايو).
ربما في موسم سياسي آخر، كان الليبراليون ليشعروا بالسعادة حيال هذا الوضع - لكن بالتأكيد هذا لا ينطبق على الموسم الراهن.
على الجانب الديمقراطي، نجد أن المرشح الذي يتصدر السباق لا يعدو كونه واحدًا من الصقور القادرة على التلون المستمر، وهي سيدة تتعامل بأريحية مع كبار الأثرياء، وأدى استخدامها لحسابها الإلكتروني الخاص في تبادل رسائل خاصة بالدولة لفتح مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) تحقيقًا بالأمر، علاوة على أن غالبية الأميركيين لا يثقون بها.
في الواقع، تكشف استطلاعات الرأي أن ثلثي الأميركيين لا يثقون بأي من المرشحين المتصدرين للسباق الانتخابي داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
أما غريمها الوحيد فيصف نفسه بالاشتراكي الديمقراطي يسعى لحشر تغييرات جيلية كبرى - تعتمد على زيادات كبيرة بالضرائب - خلال فترة رئاسية واحدة. ويقول إنه سيتمكن من إنجاز ذلك بمعاونة ثورة سياسية، رغم أن استطلاعات الرأي لم تكشف عن مؤشرات بعد على قرب حدوث مثل هذه الثورة.
تظل الحقيقة أن أحد هؤلاء سيكون الرئيس القادم للولايات المتحدة. وفيما يلي سأستعرض البلاد التي سيتولون قيادتها:
إننا بلاد محصورة داخل حالة أبدية من الحرب - وهذه المرة نواجه تنظيم داعش الإرهابي. من جانبهم، اقترح المرشحون الجمهوريون توجهات غاية في الغرابة للتصدي لهذا التهديد، منها كل الخيارات الممكنة تقريبًا بداية من جرائم الحرب مثل التعذيب وقتل أسر الإرهابيين المشكوك فيهم، وصولاً إلى قصف الشرق الأوسط.
الواضح أن حكومتنا منهارة، بينما نعاين سلطة تشريعية تنظر لنفسها باعتبارها على نحو متزايد باعتبارها تضطلع بدور المقاومة، وليس اتخاذ أفعال. وهناك منصب شاغر داخل المحكمة العليا، تؤكد القيادات الجمهورية داخل مجلس الشيوخ أنها لن تسمح للرئيس المنتخب ديمقراطيًا الحالي بملئه.
وعليه، فإن مهمة اختيار شخص لتولي المنصب الشاغر قد تقع على عاتق الرئيس المقبل. إلا أن تلك المحكمة العليا ذاتها أصدرت حكمًا مفاده أن لا صوت يعلو فوق صوت المال، لتفتح بذلك الباب على مصراعيه أمام كبار الأثرياء لممارسة نفوذ لا حصر له على العملية الانتخابية.
ومع ذلك، لا تزال غالبية الأميركيين عاجزة عن تفهم هذه الفكرة. إننا نعاني حالة من الجمود الثلجي، ونكتفي بصب اللعنات من حين لآخر على الرياح التي تحمل معها فناءنا، لنستمر بعد ذلك في التظاهر بأن كل المؤشرات على وجود خلل عميق ليست حقيقية.
على سبيل المثال، رغم وجود ملايين المهاجرين غير الموثقين داخل الولايات المتحدة، يبقى إصلاح منظومة الهجرة على نحو شامل مجرد فكرة نتجادل بشأنها، لكن لا نتخذ إجراءً عمليًا واحدًا لتنفيذها.
أما البنية التحتية ففي حالة يرثى لها، لكن في وقت تتداعى الجسور والكباري، يبدو المرشحون الجمهوريون مهووسين ببناء جدار حدودي.
من ناحية أخرى، لا يزال ارتفاع درجات حرارة الأرض مستمرًا، والاحتمال الأكبر أنه سيزيد من حدة وتطرف الأحوال المناخية - من جفاف إلى أعاصير إلى العواصف الثلجية - ومع ذلك عطلت المحكمة العليا بصورة مؤقتة تطبيق القواعد التي أقرتها إدارة أوباما للحد من انبعاثات الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري على المصانع المنتجة للطاقة.
أما المنظومة التعليمية، منذ مرحلة ما قبل الروضة وحتى الجامعة، تخدم الأثرياء على نحو جيد نسبيًا، تاركة وراءها أعدادًا هائلة عاجزة عن الالتحاق بالمنظومة أو غير معدة للعمل بصورة جيدة أو غارقة في الديون.
كما أننا نعاني من وباء أعمال العنف التي تستخدم فيها الأسلحة النارية وعمليات إطلاق النار العشوائي. ومع ذلك، لم نتخذ خطوة واحدة للأمام نحو تنفيذ حلول حقيقية لهذا الأمر.
وتشير الأرقام إلى انكماش الطبقة الوسطى الأميركية. وتبعًا لتقرير أصدره «مركز بيو للأبحاث» في ديسمبر (كانون الأول)، فإن «49 في المائة من إجمالي الدخل الأميركي اتجه للأسر صاحبة الدخول الأعلى عام 2014، بارتفاع 29 في المائة عن عام 1970. وخلال 2014، بلغ نصيب أسر الطبقة الوسطى 43 في المائة، بعد أن كان 62 في المائة عام 1970».
إضافة لذلك، فإن نظام العدالة الجنائية لدينا سحق فكرة العدالة المتكافئة من خلال النمط العنصري المعيب في أحكام السجن الصادرة عنه. ولم تكتفِ الولايات المتحدة بأن تصبح «الدولة الأولى عالميًا في سجن الأفراد، بعدد سجناء بلغ 2.2 مليون شخص يقبعون حاليًا داخل السجون الأميركية أو أماكن الاحتجاز - مما يمثل زيادة بنسبة 500 في المائة على مدار الأعوام الثلاثين الماضية». وأضاف التقرير أن «ما يزيد على المسجونين حاليًا أنهم ينتمون لأقليات عرقية وعنصرية. وفي أي يوم، فإن واحدًا من كل 10 بالسجن يكون شابًا في الثلاثينات من أصحاب البشرة السمراء». وقد تعمقت هذه التفاوتات جراء «الحرب ضد المخدرات»، ذلك أن ثلثي جميع السجناء لجرائم تتعلق بالمخدرات من أصحاب البشرة الملونة.
وما سبق ليس سوى جزء من المحن التي تعايشها هذه البلاد. والواضح أن هناك شعورًا بالسخط في نفوس من يشعرون بأنه جرى تجاوزهم في تقسيم غنيمة الرخاء الأميركي. إلا أن التساؤلات التي تفرض نفسها الآن هي: إلى متى سيبقى المركز قادرًا على الصمود؟ وإلى متى سيظل من الممكن الإبقاء على الأوهام القائمة؟ وكم سيمر من وقت قبل أن نبدأ في استخدام مصطلح «حقبة ما بعد المثالية الأميركية» في الإشارة لهذه الفترة؟
*خدمة «نيويورك تايمز»