أجد الانتخابات الرئاسية الحالية غريبة للغاية لأسباب متعددة، ولكنها لا تقارن بهذا السبب: إذا ما أتيحت لي ورقة بيضاء وطُلب مني أن أخط فيها أعظم ثلاثة مصادر للقوة الأميركية، فسوف تكون «ثقافة ريادة الأعمال»، و«أخلاقيات التعدد»، و«جودة مؤسسات الحكم». ولقد كنت أتابع الحملة الانتخابية حتى الآن، وأستمع للمرشحين الرئيسيين وهم يسفهون من آراء بعضهم البعض في كل وقت.
يتحرك دونالد ترامب بكامل قواه ضد التعددية. ولا يعبأ بيرني ساندرز البتة بريادة الأعمال، ويقول إن بنوك وول ستريت التي توفر رؤوس الأموال للمستثمرين المجازفين، تشارك بذلك في عملية «تدليس» كبرى، أما تيد كروز فيتحدث عن حكومتنا بالطريقة نفسها لغروفر نوركويست المكافح المتعصب لنظام الضرائب، الذي يقول إنه يجب علينا تقليص دور الحكومة إلى الحجم الذي أستطيع به سحبها إلى حمام المنزل، وإغراقها في حوض الاستحمام. (فهل سأكون شخصا وضيعا إذا تمنيت انزلاق قدم نوركويست في حوض استحمامه، ثم يهاتف خدمة 911 فلا يجد أحدا يجيبه؟)
لا أذكر انتخابات رئاسية سابقة تعرضت فيها أركان القوة الأميركية لمثل هذا الهجوم العنيف - وتلقى مزيدا من الترحيب بل والتصفيق، حتى من الشبان الصغار!
يرفع ترامب شعارا مؤثرا يقول: «لنجعل أميركا بلدا عظيما مرة أخرى». ولن يمكنه تحقيق ذلك إذا كانت رسالته المفتوحة للإسبانيين والمسلمين تقول: اخرجوا من بلادنا أو ابقوا حيث أنتم. لدينا بالفعل مشكلة في الهجرة. ومن المثير للغضب بحق عدم استطاعتنا السيطرة على حدودنا، ولكن التواطؤ كان من كلا الطرفين - فالمعسكر الديمقراطي ينظر للمهاجرين كأصوات انتخابية مستقبلية محتملة، والمعسكر الجمهوري ينظر إليهم كعمالة رخيصة تضيف زخما لسوق العمل الأميركي. ولكننا يمكننا حل مشكلة الهجرة من دون تحويل كل مهاجر إسباني إلى مغتصب بغيض أو كل مهاجر مسلم إلى إرهابي كريه.
استخدم ترامب ورقة الهجرة كإسفين عاطفي ليحرك قاعدته الانتخابية ضد «الآخر» وإلقاء اللوم دائما على «الآخر» في مشكلات فقدان الوظائف، على الرغم من أن فقدان مزيد من فرص العمل، وخصوصا المهن ذات المهارات المتواضعة، تضيع من المواطنين بسبب التطورات التقنية الحديثة، وليس بسبب مزيد من المهاجرين المكسيكيين.
إن ما لدينا في الولايات المتحدة لهو أمر يدعو للدهشة والعجب بحق - المجتمع التعددي في وجود التعددية. إن سوريا والعراق هي مجتمعات تعددية، ولكن من دون تعددية حقيقية. وبالتالي لا يمكن حكم تلك المجتمعات إلا بالقبضة الحديدية القوية.
ودعوني أذكركم مرة أخرى: لقد انتخبنا مرتين متتاليتين رجلا أسود جده كان مسلما، ذلك الذي هزم في الانتخابات سيدة أميركية بيضاء، كانت تترشح ضد المورمون! فمن يفعل ذلك؟ إن هذا مصدر من مصادر القوة، وهو مثل المغناطيس الجاذب لأفضل المواهب في العالم. ومع ذلك، فإن ترامب بحملته الانتخابية شديدة الغرابة على مجتمعنا، قد سعى إلى تقويض حالة التفرد والتميز التي نتمتع بها، بدلا من الاحتفاء بها وتأييدها.
يبدو بيرني ساندرز بالنسبة لي كشخص يحمل بين جنباته روحا طيبة، وهو محق في أن تجاوزات وول ستريت ساعدت فعلا في الإضرار باقتصاد البلاد، أثناء أزمة عام 2008 المالية. ولكن بفضل قانون دود فرانك لإصلاح وول ستريت وقانون حماية المستهلك، فإن ذلك لا يمكن حدوثه مجددا بكل سهولة.
كنت سأعتبر ساندرز أكثر جدية في برنامج الانتخابي، إذا ما توقف عن الدعوة إلى تفكيك البنوك الكبيرة، وبدلا من ذلك يضخ مزيدا من الجهد والنشاط للأمور ذات الأهمية الفعلية: مثل رعاية مزيد من الأعمال والشركات الناشئة. لم أستمع إلى ساندرز يتحدث قط عن «من أين يأتي الموظفون». إنهم يأتون من عند أرباب الأعمال - أي المستثمرين المجازفين، الأناس المستعدين للدخول في رهن عقاري جديد لبدء شركة أو نشاط تجاري جديد. فإذا ما أردت مزيدا من الموظفين، فأنت في حاجة إلى مزيد من أرباب الأعمال، وليس مجرد التحفيز الحكومي.
لدي خطة موجزة أقدمها إليه: يشير تقرير لجنة ميلشتاين حول ريادة الأعمال، وفرص العمل للطبقة المتوسطة والصادر عن جامعة فيرجينيا إن «الهوية الأميركية الحقيقية تكمن في ريادة الأعمال، وتتعزز بواسطة المؤسسين، وتزداد شعبيتها من قبل هوارشيو ألغير، وتتجسد على أيدي هنري فورد. ومع ما يكفي من العمل الجاد، يمكن لأي شخص استخدام ريادة الأعمال لتمهيد الطريق نحو الرخاء وتعزيز مجتمعاتهم من خلال خلق مزيد من فرص العمل وتنمية الاقتصاد المحلي». وبعبارة أوجز، نحن لسنا اشتراكيين.
يوضح التقرير كثيرا من الخطوات التي يمكن للحكومة اتخاذها - من تحرير الضوابط إلى التعليم وحتى التمويل - لإتاحة الفرص لمزيد من المشروعات في الولايات المتحدة، وليس في وادي السيلكون فقط، ولكن في كل مكان، مثل لويزفيل، التي تشهد مجتمعا نابضا بالشركات الجديدة والناشئة. واليوم، تفخر تلك المدينة بوجود خمسة محركات استثمارية على أراضيها، إلى جانب مجتمع حيوي مليء بالمستثمرين والملاك والشراكة مع الشركات العملاقة، بهدف دعم المشروعات الناشئة مثل مركز (جي إي فيرست بيلد) والذي يجمع بين التصنيع المصغر وحركة الصانعين. أجل، يمكننا فعل ذلك! ونحن نفعل ذلك فعلا. «يعمل ما يقرب من نصف موظفي القطاع الخاص الأميركي في الشركات الصغيرة، و65 في المائة من فرص العمل الجديدة منذ عام 1995 غالبا ما تأتي من المشروعات الصغيرة».
وعلى العكس من ساندرز، لا يتمتع تيد كروز بروح طيبة. إنه مفعم بالكراهية، وهجماته الشديدة على العاصمة واشنطن من التصرفات الحقيرة. ليس بإمكاني الدفاع عن كل ضابط من الضوابط الحكومية بحال. ولكنني أعلم ذلك تماما: مع ازدياد وتيرة السرعة والتشابك حول العالم، فإن جودة مؤسساتنا الحاكمة تزداد أهميتها كثيرا من أي وقت مضى، ولا تزال مؤسسات الحكم عندنا جيدة للغاية. وأجدني متسائلا كم الأموال التي يمكن للروس أن يستغنوا عنها، ليكون لديهم جهاز مثل المباحث الفيدرالية الأميركية، أو وزارة العدل ليوم واحد فقط؟ أو كم من المال يمكن لمواطن في إحدى المدن الصينية أن يدفعه لقضاء يوم واحد فقط في لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية؟ إن تيد كروز يلف جسده بالعلم الأميركي، في حين ما يبصق على كل المؤسسات التي ترفع هذا العلم وتجسده.
لم تتحول الولايات المتحدة لأغنى دولة في العالم بسبب الممارسات الاشتراكية لشعبها، أو أصبحت أقوى دولة في العالم عن طريق تشويه سمعة مؤسسات الحكم فيها، أو صارت أكثر بلدان العالم جذبا للمهارات والمواهب من خلال ترهيب وترويع المهاجرين القادمين إليها. لقد وصلت أميركا إلى ما وصلت إليه عبر هذا الشعار الحقيقي والكبير «E Pluribus Unum» - (واحد من الكثرة).
احتفى أجدادنا الأوائل بذلك الشعار أيما احتفاء، والذي لم يرفعوه على لافتات الانتخابات. وإنما صكوه على العملات المعدنية وعلى ورق البنكنوت. ولرجل غارق في أمواله حتى أسنانه، ترامب، لا بد وأنه قد لاحظ ذلك منذ حين.
* خدمة «نيويورك تايمز»
8:2 دقيقه
TT
أعظم ثلاثة مصادر للقوة الأميركية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة