هل عاد البحر المتوسط كما كان إبان الحملات الصليبية في القرن الحادي عشر؛ خط تماس بين عالمين متناقضين، كي لا نقول حضارتين متصادمتين؟
بعد كل ما صدر، ويصدر، من ردود فعل أوروبية مستاءة ومتخوفة من النزوح المشرقي الجماعي إلى أراضيها - والمستمر بمعدل ثلاثة آلاف نازح يوميًا حتى الآن - لم يعد سهلاً الاستهانة بما حركته عمليات النزوح من مشاعر شوفينية راقدة في أوروبا، وتيارات يمينية – عرقية - تلامس ملامحها لاسامية القرن الماضي.
لافت أن اليمين الأوروبي توصل إلى تحويل النزوح القسري من المشرق العربي من ظاهرة إنسانية إلى خطر حضاري داهم؛ فبعد الترحيب الأولي الذي لاقاه النازحون من عدة دول أوروبية - خصوصا ألمانيا والسويد - عاد الاتحاد الأوروبي ليخرج من جعبته كل الأسلحة المتاحة لمواجهة «الخطر» الداهم: على الصعيد المالي وافقت بروكسل على «مساعدة» مالية لتركيا، قيمتها ثلاثة مليارات يورو، لقاء تعاونها مع الاتحاد الأوروبي على لجم عمليات النزوح عبر أراضيها (رغم ذلك، فإن حجم النزوح لم يتراجع بنسبة تذكر).
على الصعيد الميداني، ساعدت بروكسل دولة مقدونيا على إقامة شريط شائك على طول حدودها مع اليونان - على غرار الشريط الذي أقامته المجر - لمنع تسلل النازحين إلى الداخل الأوروبي، فيما أمدتها ست دول أوروبية بقوة من الحرس المسلح للمساهمة في حماية الحدود.
حتى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي سارعت إلى فتح حدود بلادها لأفواج النازحين مغلّبة العامل الإنساني في التعامل مع مأساتهم على التحفظات العرقية والطائفية للحكام الآخرين، أعادت النظر، بعد أحداث ليلة رأس السنة في مدينة كولون، في سياسة «الباب المفتوح» ووافقت على ترحيل طالبي اللجوء «المجرمين».
لا جدال في أن أعمال الشغب في كولون - التي قالت تقارير شرطة المدينة إن نحو ألف شاب «ذوي سمات عربية وشمال أفريقية» افتعلوها وشملت نحو 120 حادثة اعتداء جنسي - تصرف شاذ من مجموعة خارجة على القانون والأخلاق العامة معًا. ولكن من الإجحاف اعتبار هذه المجموعة «عينة أخلاقية» لكل النازحين، أو حتى حصر تصرفهم الإجرامي في فئة عرقية معينة.
الاستغلال السياسي لأحداث كولون كشف عن وجه مستتر للاسامية في ألمانيا، فهذه الأحداث لم تهزّ سياسة «الباب المفتوح» التي تبنتها السيدة ميركل فحسب، بل أطاحت بتقليد أخلاقي متعارف عليه في الإعلام الألماني يقضي بتجنب توجيه انتقادات علنية لتصرفات الجالية الإسلامية في ألمانيا تحاشيًا لأن تبعث من جديد تقليد «التصنيف» النازي للشعوب غير الألمانية في خانات عرقية محددة.
قد تشبه المخاوف الأوروبية من تأثير النزوح المشرقي على نسيجها الديموغرافي والإثني، المخاوف الأميركية المماثلة من النزوح غير الشرعي للشعوب اللاتينية (Hispanics) إلى الولايات المتحدة. ورغم أن هذه المخاوف مبالغ فيها في أوروبا، فإن الجاذبية الأوروبية لجيران ما عبر المتوسط لا تقل حوافزها عن جاذبية الولايات المتحدة لشعوب الجوار، فأوروبا قارة غنية.. وهرمة في الوقت نفسه.. عدد سكانها مستقر على حاله منذ عدة سنوات، فيما يزداد باطراد عدد سكان الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا الجنوبية ويشكل جيل الشباب الأكثرية في مجتمعاتها.
إبان عصرها الإمبريالي الذهبي في القرن التاسع عشر، كان سكان أوروبا يشكلون نحو 25 في المائة من مجموع سكان العالم. أما اليوم، فإن مجموع سكان الاتحاد الأوروبي، البالغ خمسمائة مليون نسمة، لا يتجاوز نسبة 7 في المائة من مجموع سكان العالم.
إذن، بمنطق حسابي وواقعي، بقدر ما يحتاج النازحون إلى ملجأ من الحروب الدامية، تحتاج أوروبا اليوم إلى جيل من المهاجرين الشباب يرفد أداءها الاقتصادي ويبعث الحيوية في مجتمعاتها. وبالفعل أصبحت عدة دول أوروبية ناجحة اقتصاديًا، دولاً تعددية المجتمع (مثل فرنسا وبريطانيا وهولندا) دون أن تهدد هذه التعددية طابعها القومي ولا نظامها السياسي.
ولكن إذا كان السؤال المطروح على أوروبا اليوم هو مدى استعداد مجتمعاتها لتقبل جيل جديد من النازحين المشرقيين معظمهم غير مهيأ؛ تراثًا ومعتقدًا، لعملية اندماج كلي وفوري في نسيجها، فقد يكون المطلوب من كثير من النازحين فك الارتباط المصطنع بين معتقدهم الديني ونزعتهم السياسية، تمهيدًا للعيش في مجتمعات لا تمانع في ممارستهم شعائرهم الدينية في إطار حرية المعتقد التي تضمنها دساتيرها.
TT
النازحون.. مكسب أوروبي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة