خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

البجعة العفيفة

أشرت في مقالتي السابقة إلى خيانة اللقالق، وكيف أن الإنجليز يعتبرون نزول لقلق على البيت شؤمًا ينذر بخيانة زوجية. هذا نادر في عالم الطيور. فالمعتاد فيها الإخلاص ودوام العلاقة الزوجية. يبلغ هذا الإخلاص أوجه في طيور البجع.. تلك الطيور التي تقضي جل حياتها تسبح على سطح الماء شامخة برقبتها الطويلة ومنقارها الأحمر الدقيق وريشها الأبيض الناصع. ولهذا فكثيرًا ما سميت بالطيور الملكية. وبالفعل يعتبر كل البجع في بريطانيا ملك الملك والملكة. ويعاقب من يمسه بسوء شر العقاب. إنها الطيور الملكية.
وردت أساطير كثيرة عن عفة البجع والبجعة. يقال إن البجعة إذا مات زوجها تلتزم بالحداد طيلة عمرها. تنطوي على نفسها. ويقال إنها في الأخير تغني أغنية شجية وتموت. وهكذا يصف الأدباء والفنانون آخر عمل رائع ينتجونه بأنه كان «أغنية البجع» من لدنهم.
شهدت مثلاً رائعًا من هذه العفة البجعية أثناء عملي في الـ«بي بي سي» في كفرشم. وكانت كفرشم قصرًا تاريخيًا تحيط به غابة كثيفة من الأشجار والأزهار، وأمامه بحيرة جميلة اعتاد زوج من طيور البجع العيش عليها أو بجوارها. كثيرًا ما كنا نرمي إليهما بالخبز والكعك فيسبحان نحوه ويأكلان وينظران إلينا شاكرين.. وهل من مزيد؟!
مثلما عاش هذا الزوج من البجع في غابة كفرشم كانت هناك أزواج من الأحياء الأخرى، أرانب وثعالب وضفادع ونحو ذلك. ويظهر أن ثعلبًا من الثعالب لم يحترم حرمة الجوار، فهجم على البجع الذكر وقتله وأكل لحمه بعد معركة غير متكافئة. رأت الأنثى ما حصل لزوجها فانكفأت على نفسها وتراجعت إلى زاوية مطلة على البحيرة. قضت الأيام التالية تقف على الشاطئ وتنتظر عودته، ثم تعود لزاويتها، تجلس وتلقي برأسها على ظهرها وتغمض عينيها دون أن تأكل أي شيء مما نلقيه لها.
بدأ النحول والضمور يدب عليها وتقضي جل يومها نائمة خائرة. لكنها استفاقت فجأة، وقفت على رجليها وسارت نحو البحيرة. «أبشر!»، هتف القوم واستبشروا خيرًا بها. لكنها لم تنزل للماء، وإنما سارت الهوينى، وئيدة متثاقلة نحو موقع المقتل. ما زال هناك شيء من بقايا زوجها، شيء من عظامه وجلده. تقدمت نحوها، وراحت تحفر فيها بمنقارها ومخالبها: «انهض يا حبيبي!.. قم.. فحبيبتك تنتظرك، والبحيرة تنتظرك.. والحياة ما زالت نضرة»!.. ولكن هيهات. ومن مات قد فات. أدركت البجعة ذلك وعادت إلى زاويتها.
لا فائدة. لا بد أن نجد لها ذكرًا. اتصلنا بمكتب البجع في البلاط الملكي: «أوه! هذه مصيبة. بجعة أرملة!».. لكنهم بعثوا رجلاً خبيرًا ومعه بجع ذكر شاب وراح يقدمه إليها بأناة وبدبلوماسية، ولكن دون جدوى. راحت تنفخ بوجهه كلما قطع خطوة نحوها، وأخيرًا انتفضت وهجمت عليه بمنقارها.. «ابعد عني!.. واحترم حالتي». جدد الرجل المحاولة في اليوم التالي حتى يئس من مسعاه وعاد من حيث أتى. مرت أيام وشاع الخبر في كفرشم، لقد ماتت البجعة الأرملة ولحقت بزوجها.