باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

الجبهات الأربع للحرب على الإرهاب

لماذا الاختباء وراء الأصابع؟ فما حدث للطائرة في النقب، والتفجيرات الدامية في ضاحية بيروت وفي باريس ومالي، مؤخرًا، ليست مجرد عمليات إرهابية، محلية أو إقليمية عادية، بل إنها صفحة جديدة من حرب باتت معلنة بين التنظيمات السياسو - دينية الإسلاموية المتطرفة، وأبرزها اليوم «داعش»، وكل الدول والشعوب التي تقف في وجه طموحها المجنون لتوحيد المسلمين في دولة يحكمها «خليفة»، وللسيطرة على العالم.
هذه الحرب الجديدة من نوعها في التاريخ، مهما وضع لها من عناوين، ما زالت في بدايتها. ولا أحد يستطيع تبصُّر نهايتها، نظرًا لتعدد الأطراف والجبهات والأسلحة فيها وتفاوت الميادين التي يدور فيها القتال واختلاف الأهداف التي يرمي إليها المشاركون فيها.
إلا أنه من البديهيات استبعاد انتصار تنظيم إرهابي، مهما بلغ عدد مقاتليه، واحتل من مساحات، على الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي والهند، ولا ننسى 99 في المائة من العرب والمسلمين الذين يرفضون تفكيره وأسلوبه وغايته. إنه يستطيع أن يرعب، وأن يؤذي، وأن يسفك دماء رجال ونساء وأطفال أبرياء، ولكن الضرر الأكبر الذي أحدثه ويحدثه هذا الإرهاب، حتى الآن، هو الأذى الذي ألحقه بالمسلمين والعرب، ولا سيما بعشرات ملايين المسلمين الذين يعيشون في الغرب، والإساءة إلى صورة الإسلام ومبادئه السامية.
فلقد «طفَّشت» عملياتهم الإرهابية السياح من مصر وتونس ولبنان والأردن، مسببة المزيد من البطالة واللااستقرار الاجتماعي في هذه البلاد. ولقد عرَّضوا ملايين العرب والمسلمين في فرنسا وأوروبا والعالم بأسره إلى الإحراج، بل إلى الاستعداء في المحيط الذي يعيشون فيه.
إلا أن أخطر وأفدح ما ارتكبوه هو تغطية هذه الكمية من الإرهاب والعنف والحقد والرجعية بشعارات عقائدية دينية، ليست في الإسلام ولا منه. فالإسلام قد انتشر في العالم، لا بالإرهاب والسيف والخنجر والديناميت، بل بالدعوة الخيرة والمثل الصالح وعلى يد علماء أتقياء ومتنورين، لا بقطع الرؤوس وتفجير السيارات والأندية والانتحار بالأحزمة الناسفة.
حتى الآن، ما زالت الحكومات والشعوب الغربية تفرق بين المسلمين والإسلامويين، بين الإسلام كعقيدة والإرهاب الذي يرتكبه «مسلمون متطرفون» وهم يطلقون هتافات دينية. ولكن إلى متى؟ ولقد فتحت الدول الأوروبية أبوابها وصدرها لملايين المسلمين والعرب الذين هاجروا إليها طلبًا للعمل والعيش والاستقرار (ثلاثون مليون مسلم في أوروبا الغربية)، وانتشرت المساجد في الغرب (ثلاثة آلاف مسجد في الدول الأوروبية)، واستقبلت مؤخرًا مئات آلاف الهاربين من الحروب الأهلية الناشبة في بلادهم. أما بعد ما حدث في باريس ومدن أوروبية أخرى من عمليات إرهابية، فإن الأصوات باتت ترتفع عاليًا في فرنسا ودول أوروبية عدة مطالبة بإغلاق الأبواب في وجه المهاجرين من بلاد إسلامية أو عربية، وأخرى بترحيل المقيمين إلى بلادهم الأصلية.
قد يكون هذا الغضب المتصاعد أو ردود الفعل المعادية في الغرب هو ما يرمي إليه الداعشيون وأمثالهم معززًا لعقيدتهم العدائية، ولكن هل تراهم يقدِّرون ما قد تؤول إليه هذه الحرب التي أعلنوها على العالم؟ إن الدول الكبرى قد اكتفت حتى الآن بـ«التنقير الجوي» والتشدد البوليسي في مجابهتها لـ«داعش»، ولكنها لن تكتفي بذلك إذا صعَّدت التنظيمات الإرهابية إرهابها وهددت مصالح هذه الدول الحيوية.
إن الطريق الذي اختارته «داعش» والتنظيمات العقائدية المتطرفة لتحقيق أهدافها، إنما هو طريق انتحاري مؤدٍ إما إلى حرب عالمية جديدة ليس لها فيها أدنى حظ أو فرصة للانتصار. بل إن هذه الحرب اللامتوازية التي تخوضها، والتي قد تدوم سنوات سوف تهدم في العالمين العربي والإسلامي ما لم يتهدم بعد وتعود بالعرب والمسلمين ألف سنة إلى الوراء.
إنها حرب من نوع جديد مؤذية ومرعبة للغرب وللعالم، ولكن أذاها للمسلمين والعرب أكبر، وخسائرها أفدح. وهي حرب لا تربح عسكريًا أو بوليسيًا فقط، بل حرب لا بد من كسبها سياسيًا وفكريًا واجتماعيًا أيضًا. فهناك قضايا عالقة؛ محن عميقة الجذور، تشكل جمرات تغذي مشاعر العداء بين المسلمين والغرب، وأهمها قضية الشعب الفلسطيني التي يجب حلها بإرغام الدول الكبرى إسرائيل على التسليم بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. كما هناك على المراجع الدينية والعلماء المسلمين أن يبذلوا المزيد من الإرشاد والتوجيه اليومي والشامل لإبعاد الأجيال الطالعة عن هذا الطريق الانتحاري الذي تدفعهم «داعش» وأمثالها إليه. وأما المجال الرابع فهو الاستقرار والتقدم الاقتصادي - الاجتماعي، الذي لا بد من تحقيقه للقضاء على البطالة والغضب والنقمة المولدة للتطرف وللعنف. وإنها لمعارك أربع لا تربح إلا بتعاون صادق بين الدول الكبرى والدول العربية والإسلامية.