في منتصف خمسينات القرن الماضي وربما بعدها أو قبلها بقليل، نشرت إحدى الجرائد خبرًا في قصة أو قصة في خبر عن فلاح من إحدى قرى محافظة المنوفية، كان في طريقه إلى عاصمة المحافظة سيرًا على الأقدام، وذلك للذهاب إلى عيادة الطبيب الذي كان يعالجه من الضغط والسكر وعدة أمراض أخرى. وفي الطريق الزراعي شعر بالتعب فجلس على رأس حقل برسيم ليستريح قليلاً. في حقول البرسيم ينمو عادة نباتان بشكل تلقائي، وهما السريس والجُعضِيض، وهما نباتان لذيذان، وخصوصًا عندما يؤكلان مع الجبن القريش. مدّ الرجل يده في الحقل وانتزع عدة أوراق من السريس، ثم أخذ يمضغها في تلذذ. وفجأة شعر برغبة قوية في أن يأكل عدة أوراق من البرسيم، وهذا ما حدث بالفعل، بعدها أحس بالارتياح والرغبة في النوم. استيقظ الرجل بعد ساعة فواصل طريقه إلى عيادة الطبيب.
وفي العيادة اكتشف الطبيب اكتشافًا مذهلاً، قاس له الضغط فاتضح أنه في معدله الطبيعي، تحليل السكر في الدم أثبت أنه طبيعي، كشف على القلب فوجده قلب شاب رياضي. فسأله: «أنت شخص طبيعي الآن لا تشكو من أي مرض.. ما حكايتك؟».. فقال القروي: «والله يا دكتور حكايتي لن تصدقها حضرتك ولن يصدقها أحد.. لقد أكلت برسيمًا من نحو ساعتين، ونمت ثم استيقظت في حالة من النشاط لم أعرفها إلا عندما كنت شابًا صغيرًا». هذه هي الحكاية كما نشرتها الجريدة التي تخصصت في نشر الأخبار والقصص المثيرة، بعدها بأيام أعلن صاحب محل عصير في منطقة المبتديان في حي السيدة زينب أنه سيقدم لزبائنه عصير برسيم بعد أن أطلق عليه اسم «عصير الربيع الصحي». وفي ساعات قليلة وقف الناس في طوابير طويلة لكي يحصلوا على كوب عصير برسيم.
نشط رسامو الكاريكاتير وقاموا بحملة ضد هذا السلوك الهمجي من الآدميين، الذين يسرقون طعام أكثر الحيوانات صبرًا ونبلاً، وهو الحمار. ولكن بحسابات المكسب والخسارة اكتشفت الحكومة أنها مقبلة على كارثة، فالبرسيم هو طعام الحمير، والحمار هو ذراع الفلاح اليمنى.
بدأت محلات العصير في مصر كلها تخطط لتقديم عصير البرسيم فارتفعت أسعاره وتضاعفت عشرات المرات، هنا بدأ الناس يكتشفون أنه حتى بفرض أن عصير البرسيم يشفي بعض الناس من بعض الأمراض، وهو الأمر الذي لم يؤكده أو يثبته العلم، فإنه ينذر بكارثة تنزل على البلاد كلها وتدمر ثروتها الزراعية. وهنا تدخلت الحكومة ومنعت تقديم البرسيم للبشر.
أنت تعرف غرامي بالبحث والغوص داخل الكلمات، ما صلة الاستحمار بالاستعمار؟ وهل المستحمر هو نفسه المستعمر؟ المستعمر يحتل أرض الناس وأوطانهم، أما المستحمر فهو يحتل عقولهم، ليس لأنهم حمير، بل لأنه هو نفسه حمار.
8:2 دقيقه
TT
عصير الربيع الصحي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة